د. زياد عقل
خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
16/07/2013
بالرغم من أن التساؤل حول ما حدث بمصر هل هو ثورة أم انقلاب يعد تساؤلا مقبولا نظرياً وعمليا، كون النموذج المصري هذه المرة به من دلالات ما يشير للثورة وما يؤشر للانقلاب، إلا أن ما وراء هذا التساؤل من دوافع سياسية لا يعبر سوى عن سعي الغرب لقياس تجربة الإخوان علي مبادئ الديمقراطية، ولكن دون وضعها في سياقها المجتمعي والإنساني.
وهذا السياق لا يجعل من الديمقراطية مجرد مجموعة من القوانين والمجالس والانتخابات، بل يؤكد علي كونها مجموعة من الممارسات اليومية والحقوق غير المنقوصة التي يتمتع بها المواطن ويستطيع التعبير عنها بكل الطرق السلمية وفي أي وقت.
ولذلك فقد أصبح جدل الثورة الشعبية والانقلاب العسكري جدلاً خارجاً عن السياق السياسي المناسب للمرحلة الحالية، فاستمرار النقاش حول الثورة والانقلاب لا يعبر سوى عن بعد المتناقشين عن الواقع السياسي الجديد.
فمؤيدو مرسي ممن يسعون لإثبات نظرية الانقلاب العسكري للنيل من شرعية 30/6 عليهم أن يدركوا أن عزل مرسي بات واقع سياسي من الصعب جداً تغييره بما تملكه جماعة الإخوان وأنصارها من أدوات سياسية.
وعلي الجانب الآخر، من يدركون أن ما حدث هو بالفعل ثورة شعبية عليهم أن يعلموا أن التسمية ليست مصدراً للشرعية على أي الأحوال، ولكن المسألة تتعلق بما هو آت من أفعال.
وبمعنى آخر، أصبح سؤال الثورة والانقلاب سؤالاً غير مناسب، وهو بالتأكيد ليس السؤال الصحيح الذي يجب علينا الإجابة عنه الآن.
ولذلك فالسؤال الأدق والأكثر مناسبة للمرحلة هو ما نتوقع من ملامح للمرحلة الانتقالية الجديدة.
فبعد أعوام طويلة من الركود والكساد باتت مصر تخرج من مرحلة انتقالية لتدخل في أخرى.
ولعل أهم علامات هذه المرحلة هي عودة الدولة المصرية بشكلها التقليدي، دولة المؤسسة العسكرية.
فمنذ أن عرفت مصر الدولة الحديثة مع محمد علي لم يتغير البناء الهيكلي لهذه الدولة كثيراً، فظل الجيش وبعد ذلك مؤسسة القوات المسلحة يمثلان القلب الصلب لهذه الدولة، فلطالما ارتبطت موازين القوى السياسية في هذه الدولة بالجيش، وارتبط الجيش بالقرار السياسي سواء العسكري أو غير العسكري، وكون الجيش هو القلب الصلب للدولة لا يعني بالضرورة أن الدولة محكومة عسكرياً، فكان الجيش هو القلب الصلب للدولة المصرية في أوقات الاحتلال، وظلت القوات المسلحة تلعب هذا الدور خلال فترة حكم محمد مرسي.
ولذلك، عندما كانت الدولة علي شفا انهيار وشيك، كان من المتوقع، بل ومن المتوارث، أن يتدخل الجيش لكي يوضح أن الدولة قد تمرض ولكن لازال لها قلب مؤسسي ينبض.
وبالرغم من حرص الفريق عبد الفتاح السيسي التأكيد علي تطلعات القوات المسلحة لحكم مدني، إلا أنه من الطبيعي والمتوقع أن يظل الجيش هو مركز القوة السياسية وهو الخلية الرئيسية الفاعلة في هذه المرحلة الانتقالية.
وبما أن الكثير من الدلالات تشير لحدوث صدام قريب بين الجيش والإخوان المسلمون قد يتطور لمراحل تتسم بالعنف، من المتوقع أن تبدأ سائر القوى السياسية في مصر بتعريف نفسها خلال هذه الفترة الانتقالية علي أساس موقف كل منها من الجيش والإخوان.
ومن ثم، فقد تنشأ تحالفات سياسية جديدة قائمة علي الدفاع عن الإخوان أو عن الحركة الإسلامية بشكل عام، أو علي مساندة الجيش فيما يتخذه من مواقف سياسية وربما عسكرية.
أما حكومة الدكتور الببلاوي بالرغم من كونها حكومة واعدة تشتمل علي العديد من الأسماء المشهود لها بالكفاءة، بما فيهم الدكتور حازم الببلاوي نفسه، ولكن الجدارة الحقة لهذه الحكومة سوف تقاس بناء على أولاً مدى قدرتها على التعامل مع الأزمات التي خلفتها إدارة مرسي علي وجه الخصوص، مثل أزمة نقص البنزين والأمن في سيناء والعنف الاجتماعي والعلاقات الإقليمية، وثانياً على مدي قدرتها علي تقديم برنامج اقتصادي إصلاحي يبدأ بنوع من إدارة الأزمات ثم مرحلة إنقاذ سريع (نظراً للوقت الضيق نسبياً الممنوح لهذه الحكومة كونها حكومة انتقالية) بحيث تترك الاقتصاد في حالة مستقرة وصالحة للبناء عليها مستقبلا.
وتظل هناك قضية في غاية الأهمية تتحرك وراء الستار وهي العلاقة بين مركز القوة (الجيش) وذراعه التنفيذية (الحكومة).
ولعل وجود الفريق عبد الفتاح السيسي داخل هذه الحكومة هو أحد ضوابط هذه العلاقة.
وأغلب الظن أن الجيش سوف يسعى لحماية ورعاية مصالحة الإستراتيجية، والتي كاد عام من حكم مرسي يعصف يبعضها، كالعلاقات الإقليمية، وأمن الحدود، والأراضي المملوكة للدولة، ففي بعض الحالات يرعى الجيش هذه المصالح مباشرة من خلال رجاله في المواقع الوزارية، أو بشكل غير مباشر من خلال التوصل لصيغة مع الأذرع التنفيذية تضمن الحفاظ علي هذه المصالح.
وفي نفس الوقت، يترك الجيش باقي المجالات مفتوحة للحكومة لممارسة سلطاتها بشكل غير منقوص، مع تدخل الجيش تدخلات ناعمة في القرار السياسي بالتأكيد.
ولذا فمن المهم إدراك أن المرحلة الانتقالية ليست حكماً عسكرياً بشكله التقليدي، أو حالة "عسكرة" تسعى القوات المسلحة لفرضها علي الدولة، فلا يوجد حني الآن ما يشير لهذه أو تلك.
بل في واقع الأمر، ما يحدث في مصر هو اقتسام صريح للسلطة بين القوى السياسية ممثلة في الحكومة والدولة ممثلة في القوات المسلحة ومؤسسة الرئاسة.
تعد جبهة معارضة محمد مرسي والإخوان المسلمون، والتي دعت وساندت وشاركت في مظاهرات 30\6 ، والتي باتت أقرب للتيار الحاكم منها لتيار المعارضة، أحد أهم الفاعلين في المرحلة المقبلة.
وستبدأ هذه الجبهة في وقت قريب جداً في المعاناة من الاختلافات الجوهرية بين أعضائها، ولعل إعادة إحياء جدل الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً هو خير دليل علي ذلك.
كما أن كل الجهود المبذولة في كواليس تشكيل الحكومة تشير لصعوبة التوصل لإجماع بين النخبة الحاكمة الجديدة.
كما من المتوقع أن تختلف العناصر المتعددة داخل الجبهة حول جماعة الإخوان المسلمين، فمن الصعب جداً التوصل لإجماع بين القوى السياسية المختلفة حول قضايا مثل حل الجماعة، وإصدار قانون بعزل أعضاء الجماعة وقيادات الحزب عن العمل السياسي.
فكما هو الحال في نماذج الثورات علي امتداد التاريخ، ومنذ شرع كرين برينتون Crane Brinton في دراستها بدقة في كتابه “تشريح الثورات” في 1938، دائماً ما تنقسم النخب الثورية في مرحلة ما بعد الثورة إلى جماعات معتدلة وأخرى أكثر راديكالية، مع وضع كل منهما في سياقه المناسب.
ويظل العبء الأكبر علي عاتق التيار الإسلامي بشكل عام وجماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص، فلم يعد هناك سوى خط رفيع يفصل بين ما تفعله الجماعة لمساندة مرسي وما هو معروف بكونه أعمال إرهابية من شأنها إحداث الضرر في المجتمع.
وبالرغم من وجود عناصر داخل الجبهة المعارضة لمرسي ترفض فكرة قانون الطوارئ والأحكام العرفية واستخدام العنف مع مؤيدي مرسي، وهي عناصر كان أغلبها جزء من مظاهرات وأحداث على مدار الفترة الماضية مثل أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو، وهي الأحداث التي لم تشارك الجماعة بها ولم تؤمن بشرعية مطالبها، ولكن تظل هذه العناصر مؤمنة بأن المبادئ لا تتجزأ وأن ما كان مرفوضاً يوم ما لن يصبح مقبولاً عندما يكون الإخوان المسلمين هم الطرف الأضعف والأقل عددا والأكثر عرضه للضرر والاعتقال.
وبالرغم من كل ذلك تظل العناصر الراديكالية التي ترفض فكرة التصالح أو المشاركة مع الجماعة في أي عملية سياسية هي الأعلى صوتاً والأكثر عدداً حني الآن داخل الجبهة المعارضة لمرسي.
كما أن بدء انتشار العنف الاجتماعي جعل عدد غير قليل من المواطنين غير المسيسين يساند بشدة بل ويطالب باتخاذ كل الإجراءات الاستثنائية المتاحة لوقف العنف والتصدي للتصرفات الهمجية وغير السلمية التي ينظمها أتباع الجماعة.
ومن ثم بات من الضروري أن تعيد الجماعة هيكلة نفسها وأن تدرك أنها علي أعتاب فرصة سياسية مختلفة تتطلب من الجماعة أن تعي ما وقعت فيه من أخطاء وتعيد إحياء دورها الوطني.
ولكي يتحقق هذا الهدف، تحتاج الجماعة إلى تغيير نخبوي، بحيث يختفي من المشهد الحالي ومن المواقع القيادية في الجماعة أعضاء مكتب الإرشاد بتشكيله الحالي ويطفو إلى السطح شباب الجماعة الأكثر تقدمية والذي استوعب درس محمد مرسي جيداً.
والأزمة الحقيقية أن مثل هذا التغيير لا يمكن أن يتم إلا من خلال الجماعة نفسها، وهو ما يعني أن هذا التحول سوف يكون بمثابة إعادة بناء لجماعة اختل توازنها الداخلي، وهو ما يستتبع بالضرورة مرحلة انعدام توازن.
والأزمة في تعبير أبسط من ذلك تعني أن جماعة الإخوان لن تتمكن من البقاء سياسياً إذا ما انتهجت العنف، وفي نفس الوقت لن تعود للتظاهر السلمي طالما ظلت هذه القيادات في أماكنها.
ويبدو أن السيناريو الأقرب للواقع خاصة مع استمرار أعمال العنف هو اختفاء الإخوان كلاعب سياسي، وظهور بعض القوى السياسية الجديدة التي خرجت في الأصل من عباءة الإخوان، وحل الجماعة ككيان شرعي معترف به، واحتمالية مأسستها في أطر سياسية جديدة.
وفي الخلفية يوجد حزب النور، والذي تتوفر له فرصة ذهبية عليه أن يحسن استخدامها.
فمن ناحية يعد حزب النور هو الممثل الوحيد للتيار الإسلامي في المشهد الحالي، وتحتاج القوى المختلفة لوجود الحزب بشدة حتي لا تكون هناك شبهات لإقصاء تيارات سياسية علي أرضية الانتماء الفكري أو الإيديولوجي، ومن ناحية أخرى سيفقد الإخوان عدد غير قليل من مؤيديهم كنتيجة لما يحدث وما اتخذته الجماعة من قرارات خاطئة، وسوف يكون حزب النور في هذه الحالة أحد المرشحين لضم كتلة الأصوات المنشقة عن الإخوان المسلمين.
ولكن حزب النور معرض بسهولة للوقوع في مصيدة الابتزاز السياسي لسائر القوى غير الدينية وللقوات المسلحة، وهو ما قد يتبعه حزب النور لزيادة مكاسبه وثقله داخل دائرة صنع القرار وأيضاً كنوع من أنواع الطمع، ولكن يجب أن يعي الحزب أنه يقف الآن على أسس غير صلبة، وأن سوء تصرف الإخوان قد يؤثر بدوره بالسلب علي الحزب في هذه المرحلة الحرجة.
وفي النهاية لم تتمكن إدارة محمد مرسي من الاقتراب من الديمقراطية الفعلية، وظلت هناك حالة من غياب الشفافية ارتبطت بما تلاها من أزمات تتعلق بسوء الإدارة وجشع السلطة، وهو ما أخرج مصر من طريق الديمقراطية الذي وضعتها عليه ثورة يناير.
ومن المهم أن نعي جيدا أن أحداث 30\6 لم تصل بمصر إلى أهداف ثورة يناير والتي تلخصت في عيش-حرية-عدالة اجتماعية، بل ومن المهم أن ندرك أن الحكم المدني بمفهومه الحديث لا يعني انتخابات رئاسية واختيار رئيس من خلفية غير عسكرية، فالحكم المدني الحقيقي يعني وجود مؤسسة وطنية مدنية عميقة، تكون قلباً صلباً للدولة بدلاً من الجيش الذي آن الأوان لكي يبتعد بنفسه عن صراعات السياسية ويعود لدوره الفاعل كجزء لا يتجزأ من النسيج الوطني لمصر.
ولكن المؤكد أنه إذا ما تم المضي قدماً في هذه المرحلة الانتقالية بالشكل الذي تم الإعلان عنه، بالرغم من عدم إنكار وجود العديد من المشكلات، فسوف تكون مصر قد خطت خطوات واسعة نحو الطريق الصحيح للديمقراطية والذي كانت قد ضلت عن سبيله مع بدء ولاية محمد مرسي والإخوان المسلمين في العام الماضي.