د. أميرة محمد عبد الحليم

خبيرة الشئون الأفريقية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تحولت جنوب أفريقيا -التي تعد من أكبر الاقتصادات في القارة الأفريقية- إلى إحدى الدول التي تشهد توترات داخلية خلال الأيام القليلة الماضية، بعد الاضطرابات التي أعقبت سجن الرئيس السابق للبلاد جاكوب زوما، وأودت بحياة العشرات من المواطنين، مما طرح العديد من التساؤلات حول أسباب هذه الاضطرابات، التي لم تقتصر على مؤيدي وأنصار جاكوب زوما أو المقربين منه في مسقط رأسه بل تجاوزتهم إلى قطاعات أخرى من المواطنين في مقاطعات مختلفة، مما وضع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها جنوب أفريقيا في ظل القيود المفروضة لمواجهة الموجة الثالثة من كوفيد 19 في واجهة الأحداث، وساهم في توسيع نطاق الجدل حول طبيعة المرحلة التي تمر بها جنوب أفريقيا ومدى قدرتها على مكافحة الفساد وتجاوز الإحباط الذي وصل إليه مواطنوها.

وقائع الاضطرابات

بدأت الاحتجاجات في أعقاب تسليم رئيس جنوب أفريقيا السابق جاكوب زوما لنفسه لقضاء عقوبة 15 شهراً في السجن، نتيجة تجاهله للمحكمة وعدم مثوله أمامها للتحقيق معه فى قضايا فساد مرتبطة بسنوات حكمه لجنوب أفريقيا التى امتدت من 2009 وحتى 2018، حيث دفعته هذه القضايا إلى تقديم استقالته والتنحي عن السلطة، وقد اعتبرت المحكمة عدم مثوله وحضوره لمناقشة هذه القضية ازدراءاً لها يستوجب العقوبة.

وقد استهل أعمال الشغب مؤيدو الرئيس السابق الذين قطعوا الطرق الرئيسية ونددوا بمحاكمته وقاموا بعدد من أعمال النهب للمراكز التجارية وأضرموا النيران فى بعضها، إلى أن انضم مواطنون آخرون إلى أعمال الشغب، حيث تدافعوا على المراكز التجارية والشركات والمحلات والمطاعم وماكينات الصراف الآلى لنهبها وسرقتها واستخدام الأسلحة النارية لتنفيذ هذه التحركات وإحراق المبانى، مع تعرض سيارات الإسعاف للهجوم، مما أودى بحياة أكثر من 117 شخصاً فيما أصيب أكثر من ألفى مواطن مع عجز المستشفيات في الدولة عن استقبال المصابين في ظل اكتظاظها بمصابى كوفيد 19، ووصلت الخسائر الاقتصادية- حسب بعض التقديرات- إلى 15 مليار دولار.

ووصف رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا هذه الاضطرابات بأنها من أسوأ أعمال العنف التي شهدتها جنوب أفريقيا منذ تسعينيات القرن الماضي، قبل نهاية الفصل العنصري، حيث انتشرت الفوضى في مقاطعة كوازولو ناتال مسقط رأس زوما، ومقاطعة جوتنج، فضلاً عن مدينة جوهانسبرج التى تعد المركز التجاري الرئيسى لجنوب أفريقيا.

تراجع الاقتصاد انعكاس لانتشار كورونا

ربما كان تقديم الرئيس السابق جاكوب زوما نفسه للمحاكمة بمثابة الشرارة التى اندلعت على أثرها الاضطرابات والفوضى، إلا أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التى تعيشها جنوب أفريقيا والتى تضاعفت تداعياتها بسبب القيود المفروضة لمواجهة انتشار جائحة كورونا مما أصاب شرائح واسعة من الشعب باليأس والإحباط، كانت المُحرِّك الحقيقى للمواطنين، فقد تعرض اقتصاد جنوب أفريقيا- الذي يعد أكبر اقتصاد صناعي وثانى أكبر الاقتصادات من حيث النمو في القارة- لحالة من الانكماش خلال عام 2020 في ظل القيود المفروضة لمواجهة جائحة كورونا  والتى ألحقت أضراراً بأعمال الإنتاج وأدت إلى تعطيل التجارة، حيث انكمش إجمالي الناتج المحلي بنسبة 7% مقارنة بزيادته بنسبة 0.2% في عام 2019، وذلك بحسب تقرير صدر في مارس 2021 عن مكتب الإحصاء في العاصمة بريتوريا.

يشار إلى أن الانخفاض الذي سجله اقتصاد جنوب أفريقيا هو الأضخم منذ عام 1920، عندما تراجع الإنتاج بنسبة 11.9% خلال فترة الركود التي شهدتها البلاد لمدة عامين بعد الحرب العالمية الأولى (بحسب ما أظهرته بيانات البنك المركزي). كما أن جنوب أفريقيا كانت تكافح معدل البطالة المرتفع قبل تفشي الجائحة، وفرضت إجراءات صارمة لمواجهة الجائحة، ما أدى إلى زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية، وارتفع معدل البطالة في جنوب أفريقيا إلى 32.6% خلال الربع الأول من عام 2021، وتتركز البطالة بين المتسربين من التعليم الذين لم يصلوا إلى التعليم الجامعي، وبحسب البيانات الرسمية، يصل معدل البطالة بين الفئة العمرية من 15 إلى 24 عاماً في جنوب إفريقيا إلى 63%.

فساد زوما

على الرغم من التصعيد الكبير للعنف الذى يتبناه مؤيدو الرئيس السابق جاكوب زوما لمنع محاكمته، إلا أن هذا لا ينفي اتهامات الفساد التى توجه إلى زوما والتى دفعته للخروج من السلطة في عام 2018، حيث سمح- وفقاً لهذه الاتهامات- بالتعاون بين رجال الأعمال والمسئولين الحكوميين للاستيلاء على أموال دافعي الضرائب عن طريق تضخيم العقود الحكومية أو التلاعب بها أو إفسادها.

وتبعاً لذلك، خالف زوما كافة الشعارات التى تحدث عنها عند توليه السلطة فى عام 2009، فقد كان دائم الحديث عن مواجهته للفقر والبطالة وعدم المساواة، ولكنه أساء استخدام منصبه، وكان من أبرز مظاهر الفساد فى عهده العلاقات التجارية والاستثمارية التى جمعت بين عائلته وعائلة الأخوين جوبتاس والتى أطلق عليها مصطلح "زوبتاس" "Zuptas"، حيث امتلك هذا التحالف مجموعة من الشركات التى أبرمت عقوداً مربحة مع الإدارات الحكومية والتكتلات المملوكة للدولة، وقد أضرت "زوبتاس" بسمعة العديد من الشركات التى تعاملت معها، من بينها عدد من الشركات الدولية، واتُهِم زوما بتلقي رشاوي في صفقة أسلحة بمليارات الدولارات مع شركة "تاليس" الفرنسية، أشرف عليها خلال عام 1999 حينما كان نائباً للرئيس، كما لاحقته اتهامات باستخدام أموال دافعي الضرائب في تطوير منزله الخاص، حيث بلغت هذه الأموال ما يقرب من 20 مليون دولار.

فضلاً عن ذلك، اتجه زوما إلى توظيف أفراد عائلته، ومنهم نجله دودوزان، في مناصب عليا في الدولة، ويؤكد مسئولون في هيئات حكومية مختلفة أنهم تلقوا تعليمات مباشرة من تحالف "جوبتاس" لاتخاذ قرارات من شأنها تعزيز مصالح التحالف. وأدت هذه الممارسات إلى خروج زوما من السلطة بعد أن أجبره حزب المؤتمر الوطنى على الاستقالة في عام 2018، حيث يواجه زوما 16 تهمة فساد، بما في ذلك الابتزاز والاحتيال وغسيل الأموال، كما اضطرت عائلة جوبتاس لمغادرة جنوب أفريقيا.

معركة العدالة الجنائية

يعد امتثال زوما للمحاكمة اختباراً حقيقياً لقدرة جنوب أفريقيا على تحقيق العدالة الجنائية وعدم الإفلات من العقاب، كما يمثل تحدياً لقدرة الرئيس الحالى سيريل رامافوزا وشعبيته، فمعركة إصلاح نظام العدالة الجنائية في جنوب أفريقيا هى معركة سياسية، ومحاكمة أحد مسئولى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي تعزز من مكانة الرئيس رامافوزا داخل حزبه وتدعم قدرته على المضى قدماً في حملته للتطهير، فقد تعهد رامافوزا بشن حرب ضد الفساد أو ما أطلق عليه "الاستيلاء على الدولة" الذي ازداد بشكل مذهل خلال عهد زوما، حيث ينتظر المواطنون محاكمة شخصيات بارزة وانتهاء ظاهرة الإفلات من العقاب. وتم تعيين لجنة للتحقيقات يرأسها القاضي زوندو الذي يعمل عن كثب مع المدعين العامين، كما ألزم حزب المؤتمر الوطنى الأفريقى الحاكم نفسه بإنشاء هيئة قوية لمكافحة الفساد، منصوص عليها في الدستور، على ألا تخضع للضغوط السياسية.

إلا أن معركة تحقيق العدالة الجنائية في جنوب أفريقيا لا تزال تواجه العديد من التحديات الخطيرة التي لا تتوقف فقط عند الإطاحة برئيس الدولة السابق أو محاكمته ولكنها تتجاوزها إلى قضايا تمس الاستقرار في هذه الدولة، فقد كشفت الاضطرابات الأخيرة- والتى تصاعدت في أحياء مناطق الزولو ومدينة الكاب- عن التمييز الهائل الذي لا يزال شعب جنوب أفريقيا يعاني منه والانقسام بين أحياء غنية تتمتع بمستوى عالٍ من الرفاهية وأخرى فقيرة يعاني قاطنوها من الفقر والأمراض والتهميش من جانب الحكومات المختلفة، حيث يطل شبح الانقسامات الإثنية وتداعياتها الخطيرة في ظل استمرار معاناة مواطنين من السود من الفقر في الوقت الذي رفع  زوما أثناء حكمه شعارات الدفاع عن الفقراء وغير المتعلمين، وهو أول رئيس من الجماعة الإثنية الأكبر في البلاد وهى الزولو.

ويحاول الرئيس سيريل رامافوزا السيطرة على الاضطرابات بنشر ما يقرب من 25 ألف جندي في المناطق التي اندلعت فيها، إلا أنه يواجه بالكثير من الاتهامات بالفشل في توفير الأمن لمواطني جنوب أفريقيا، فضلاً عن أن عدد القوات الأمنية التي تم نشرها غير كافٍ، وخاصة بالمقارنة بنشر 70 ألف عنصر لفرض إغلاق عام على مستوى البلاد للحد من انتشار فيروس كورونا العام الماضي. كما رفضت بعض الأحزاب عملية نشر قوات أمنية لمواجهة الشغب مثل حزب المناضلين من أجل الحرية الاقتصادية (EFF)، حيث أكد مسئولو الحزب أن الحل يكمن في "التدخل السياسي والمشاركة مع شعبنا".

من ناحية أخرى، ظلت نسبة كبيرة من السكان في المناطق المتضررة في منازلهم، وشكل البعض ما تسميه وسائل الإعلام المحلية "فرق الدفاع" لحماية أحيائهم وأعمالهم التجارية مع استمرار أعمال النهب والحرق.

وليس هناك شك في أن الاضطرابات الحالية تمثل أكبر تحدي أمني يواجهه رامافوزا منذ أن أصبح رئيساً للبلاد في عام 2018 بعد الإطاحة بزوما. ومن المحتمل أن تتصاعد حدة الأزمة الاقتصادية نتيجة انتشار وباء كورونا الذي يعمل على تعزيز تداعيات هذا التحدي، خاصة في ظل تحذيرات المستثمرين والمحللين من أزمة ديون وشيكة سيكون لها آثار خطيرة على الدولة في المستقبل وقد تؤدى إلى تحولها إلى دولة فاشلة.

وأخيراً، يمكن القول إن ما تواجهه اليوم جنوب أفريقيا يعد اختباراً حقيقياً لكل المكتسبات التي تمكنت هذه الدولة من تحقيقها منذ نجاح شعبها في القضاء على الفصل العنصرى في عام  1994، وقدمت نموذجاً للعالم في التطور السياسي والاقتصادى، حيث كشفت هذه الأحداث عن استمرار معاناة قطاعات كبيرة من المجتمعات الفقيرة في هذه الدولة من البطالة والفقر ونقص الخدمات في ظل عجز هيئات العدالة في البلاد عن القضاء على منظومة الفساد وظاهرة الإفلات من العقاب، لتصبح المعركة الراهنة للرئيس الحالي سيريل رامافوزا هى معالجة جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والقضاء على التهميش الذي تعاني منه مناطق واسعة في الدولة، وإصدار قرارات مباشرة لدعم القطاعات الأكبر من شعب جنوب أفريقيا، وفي هذا الإطار يمكن لجنوب أفريقيا طلب الدعم من شركائها الدوليين والإقليميين واستثمار النجاحات الخارجية التي حققتها في دعم الاستقرار والتنمية في هذه الدولة الأفريقية الكبيرة.