د. دينا شحاتة

رئيس وحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يمثل الدعم غير المشروط لإسرائيل وسياستها الاستيطانية في الأراضي الفلسطينية منذ تأسيسها أحد الثوابت التي توافق عليها الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية على مدى عقود. فبالرغم من تباين مواقفهما تجاه العديد من القضايا الداخلية والخارجية، إلا أن الدعم الكامل لإسرائيل وسياستها في المنطقة كان من القضايا القليلة التي لم تشهد أى تباين يذكر بين الحزبين الرئيسيين، لذا فإن السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية اتسمت بقدر كبير من الاستمرارية والثبات بالرغم من تعاقب الإدارات المختلفة بشقيها الجمهوري والديمقراطي.

وفي ولاية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وصل الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث قام ترامب بالتراجع عن حل الدولتين وعن رعاية عملية السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، كما اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وقام بالفعل بنقل السفارة الأمريكية إليها، وأقر بشرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، وأوقف المساعدات الأمريكية إلى السلطة الفلسطينية ووكالة "الأونروا".

ومن ناحية أخرى، قام جاريد كوشنر، صهر ترامب، برعاية عدد من اتفاقيات السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية في محاولة للفصل بين القضية الفلسطينية من ناحية والعلاقات العربية - الإسرائيلية من ناحية أخرى، وقد ساعد على ذلك صعود إيران والتيارات الإسلامية كعدو مشترك لإسرائيل وبعض الدول العربية وتراجع أهمية القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة بسبب الانقسام الفلسطيني وفشل عملية السلام. وبدا للكثيرين أن القضية الفلسطينية فقدت أهميتها ومركزيتها لدى الرأى العام العربي والدولي، وأن قضايا أخرى أصبحت أكثر إلحاحاً، وأن التعاون مع إسرائيل لم يعد مشروطاً بمواقفها تجاه الأراضي المحتلة وعملية السلام مع السلطة الفلسطينية.

ولكن في الأسابيع الأخيرة وفي ضوء الإجراءات التي أقدمت عليها إسرائيل لإخلاء حى الشيخ جراح في القدس الشرقية من سكانه الفلسطينيين وما تلاها من اعتداءات على المصلين في المسجد الأقصى وعلى فلسطينيي الداخل في مدن مثل اللد وحيفا ويافا ثم القصف الجوي على أبراج سكنية في قطاع غزة مما أدى إلى مقتل أكثر من 200 فلسطيني معظمهم من الأطفال والنساء وتشريد أكثر من 50 ألف من سكان القطاع، عادت القضية الفلسطينية إلى الصدارة من جديد واتضح أنها لم تفقد رمزيتها ومركزيتها لدى المواطن العربي، بل إن الأجيال الأصغر- والتي على عكس الأجيال السابقة لم تلعب القضية الفلسطينية دوراً محورياً في تشكيل وعيها السياسي- تضامنت بشكل واسع وغير متوقع مع الشعب الفلسطيني واتضح أن فلسطين لا تزال هى القضية الأهم في الوعى العربي وأن كل التطورات التي طرأت على الساحة الإقليمية لم تنجح في تغيير صورة إسرائيل لدى قطاع كبير من الرأى العام العربي.

وقد جاء رد فعل إدارة الرئيس جو بايدن- في أول اختبار لها في منطقة الشرق الأوسط- متسقاً مع ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل، حيث أكد بايدن على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وامتنع عن مطالبتها بوقف إطلاق النار أو عن إدانتها لقيامها بقصف أبراج سكنية وقتل مئات من المدنيين بالإضافة إلى قصف مقار صحفية وإعلامية بعضها أمريكي مثل "اسوشييتدبرس"، وحرصت الإدارة أكثر من مرة على منع مجلس الأمن من إصدار مشاريع قرارات تطالب بوقف إطلاق والنار والاعتداءات على المدنيين.بل إن الرئيس بايدن أعلن في بيان صدر في 24 مايو 2021، أنه طلب من وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي يزور المنطقة بداية من اليوم التالي، أن "يتوجه إلى الشرق الأوسط في سياق متابعة لدبلوماسيتنا الهادئة والمكثفة لتحقيق وقف النار بين إسرائيل وحماس"، مؤكداً "الالتزام الذي لا يتزحزح حيال أمن إسرائيل"، مع مواصلة "جهود إدارتنا لإعادة بناء العلاقات مع الشعب والقادة الفلسطينيين ودعمهم، بعد سنوات من الإهمال".

وكان بايدن قد أشار في برنامجه الانتخابي إلى أنه ملتزم بحل الدولتين وإعادة إحياء عملية السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وتقديم المساعدات لوكالة "الأونروا" والسلطة الفلسطينية، ولكن من ناحية أخرى يري بايدن وفريقه أن عملية السلام والقضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام لم تعد تحتل الأولوية في السياسة الخارجية الأمريكية وأن إدارته لها أهداف أهم في المنطقة مثل إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران ومحاربة الإرهاب ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان.

توجهات مختلفة

لكن الأحداث الأخيرة تشير إلى أنه رغم رغبة بايدن وإدارته في عدم التورط في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلا أن الواقع قد يفرض عليهم اختيارات أخرى، خاصة وأن الأحداث الأخيرة سلّطت الضوء على تحولات مهمة في الرأى العام الأمريكي وداخل الحزب الديمقراطي فيما يخص القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل.

فربما لأول مرة يشهد المجال العام الأمريكي تعاطف قطاع واسع من الرأى العام ومن نواب مجلسى النواب والشيوخ مع القضية الفلسطينية، وتظهر لأول مرة أصوات من داخل دوائر صنع القرار الأمريكي تطالب صراحة بإدانة الممارسات الإسرائيلية وتبني إجراءات عقابية ضد إسرائيل للضغط عليها لوقف اعتدائها على المدنيين وإنهاء سياستها الاستيطانية.

وفي سابقة ربما قد تكون الأولى من نوعها، شهد الكونجرس الأمريكي- والمعروف بكونه أكثر المؤسسات الأمريكية دعماً لإسرائيل- خطباً نارية من قبل عدد من النواب تدين الاعتداءات الإسرائيلية وسياسات إسرائيل الاستعمارية والعنصرية. كما قام138  نائب ديمقراطي في الكونجرس بتوجيه خطاب لبايدن لمطالبته بإدانة قتل المدنيين من الناحيتين وليس من الجانب الإسرائيلي فقط والضغط على إسرائيل من أجل وقف القصف الجوي على غزة.

ومن ناحية أخرى، قام 27 نائب ديمقراطي في مجلس الشيوخ من مجمل 50 نائباً بقيادة النائب اليساري برني ساندرز بمحاولة إصدار مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار من الطرفين وتعطيل إقرار مجلس الشيوخ صفقة أسلحة مع إسرائيل لحين استجابتها للمطالب الأمريكية. وبالرغم من أن هذا المشروع لم يتم إقراره، إلا أنه مؤشر مهم على حدوث تحول في توجهات قطاع مهم من الرأى العام فيما يخص إسرائيل والقضية الفلسطينية. وكما علّق أحد المحللين لأول مرة، يصبح دعم إسرائيل قضية خلافية في المجال السياسي الأمريكي، ففيما مضى كان موقف السناتور برني ساندرز المناهض للسياسات الاسرائيلية استثنائياً شاذاً عن القاعدة العامة، إلا أن الجدل حول الأحداث الأخيرة في الأراضي المحتلة في الأسابيع الأخيرة أوضح أن هذا الموقف أصبح أكثر انتشاراً في أوساط نواب الحزب الديمقراطي وقاعدته الانتخابية. ويمكن فهم هذا التحول في ضوء عدد من العوامل كما يلي:

1- تحالف نتنياهو مع ترامب واليمين المتطرف وتوتر علاقته بالحزب الديمقراطي: رغم أن إسرائيل حظيت بدعم ثابت من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وحافظ اللوبي اليهودي على علاقات قوية مع النخبة السياسية في كلا الحزبين، إلا أنه مع قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باحتكار السلطة السياسية في إسرائيل لسنوات طويلة توطدت العلاقة بين اليمين الإسرائيلي واليمين الأمريكي بشكل غير مسبوق، في مقابل تراجع العلاقة بين نتنياهو والحزب الديمقراطي، وهو ما انعكس في قيام نتنياهو بمعارضة الاتفاق النووي مع إيران وقيام الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما- في سابقة هى الأولى من نوعها- بالسماح بعدم استخدام حق الفيتو ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يدين الممارسات الاستيطانية الإسرائيلية.

2- تراجع عملية السلام وحل الدولتين: ظهر توافق واسع في دوائر صنع القرار الأمريكية منذ اتفاق أوسلو عام 1992 حول أن حل الدولتين هو الإطار المرجعي الوحيد للتعامل مع القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، لكن الفشل المتتابع للعملية التفاوضية خاصة فيما يتعلق بقضايا الحل النهائي مثل القدس واللاجئين والمستوطنات، بالإضافة إلى انقسام الصف الفلسطيني وازدواجية السلطة بين الضفة وقطاع غزة وقيام نتنياهو بتوسيع العملية الاستيطانية في الضفة والقدس بمباركة إدارة ترامب، كل ذلك جعل حل الدولتين يتراجع كإطار مرجعي للصراع وبدء الحديث بشكل متزايد داخل الدوائر التقدمية عن أن خيار "الدولة الواحدة" أصبح الحل الوحيد للقضية الفلسطينية. وفي هذا الإطار، بدأ الحديث بشكل متزايد عن إسرائيل كدولة فصل عنصري قائمة على تفوق الهوية اليهودية وطمس وتهميش الهوية الفلسطينية. وفي الشهور الأخيرة، أصدرت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريراً مفصلاً كشف أن إسرائيل تمثل دولة فصل عنصري بين المواطنين اليهود من ناحية والمواطنين الفلسطينيين من ناحية أخرى. وقد أصبح هذا التقرير إطاراً مرجعياً في الجدل الحالي حول القضية الفلسطينية خاصة في الأوساط التقدمية داخل الحزب الديمقراطي.

3- تغير طبيعة قاعدة الحزب الديمقراطي: في العقود الأخيرة، حدث تحول مهم في طبيعة قواعد الحزب الديمقراطي، حيث أصبح المهاجرون والنساء والشباب يمثلون كتلة تصويتية مؤثرة داخل الحزب مما أدى بالتالي إلى تصاعد حجم ونفوذ الكتلة التقدمية داخل الحزب والتي يمثلها النائب برني ساندرز واليزابيث وارن ونواب مجموعة السيدات المعروفة بـ"السكواد" والتي تشمل الكاسندريا كورتيز والهان عمر ورشيدة طليب. وكان لصعود القوى التقدمية داخل الحزب أثر واضح على السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبناها بايدن منذ توليه الرئاسة، وييدو أن مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية الرافضة للسياسات الإسرائيلية ربما سيكون لها تأثير على السياسة الخارجية الأمريكية في هذا الملف. فقد قامت هذه المجموعة والفئات التي تمثلها بانتقاد سياسة بايدن تجاه الأحداث الأخيرة ومطالبته باتخاذ موقف أكثر توازناً وإدانة الممارسات الإسرائيلية.

4- تصاعد أهمية قضايا العدالة والمساواة ومناهضة العنصرية داخل الحزب الديمقراطي: أصبحت العدالة والمساواة ومناهضة العنصرية تحتل مكانة مهمة داخل الحزب الديمقراطي، خاصة بعد واقعة قتل المواطن الأسود جورج فلويد والتي أدت إلى انتفاض قطاع واسع من الأقلية السوداء ضد العنف الشرطي وممارسات العنصرية الممنهجة في المجتمع الأمريكي، وظهرت حركات سياسية مثل "حياة السود مهمة" تؤكد على ضرورة مناهضة العنصرية بأشكالها المختلفة، وأصبحت هذه القضية جزءاً مهماً في برنامج بايدن الرئاسي وأصبح خطاب الحزب الديمقراطي يتمحور إلى حد كبير حول هذه القضية. وقد تم تناول أحداث العنف الأخيرة في الأراضي المحتلة في إطار منظور العدالة العرقية، حيث رأى قطاع واسع من الشباب الأمريكي أن الشعب الفلسطيني يمثل الطرف الأضعف المضطهد بسبب هويته العرقية وأن الدولة الإسرائيلية تمثل سلطة فصل عنصري شبيهة بدولة جنوب أفريقيا البيضاء، مما جعل هناك تعاطفاً واسعاً بين الأجيال الجديدة التي ربما لا تعرف الكثير عن تاريخ القضية الفلسطينية ولكنها ترى أمامها طرفاً قوياً مدججاً بالسلاح يقوم بقمع طرف ضعيف على أرضية عنصرية.

5- دور وسائل التواصل الاجتماعي: مارس الإعلام الأمريكي التقليدي دوراً مهماً في تزوير الحقائق وتوجيه الرأى العام الأمريكي للتعاطف والتضامن مع إسرائيل وممارساتها الاستيطانية، ولكن أحداث الأسابيع الأخيرة أظهرت أن قدرة وسائل الإعلام التقليدية في تشكيل الرأى العام الأمريكي بدأت تتراجع بشكل واضح لصالح مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الشباب الأمريكي يستمد معلوماته عن هذه القضية من خلال البث المباشر الذي يقوم به الشباب الفلسطيني من على أرض الواقع على وسائل التواصل مثل "تيك توك" و"فيس بوك" و"انستجرام"، وهو ما كان له أثر مهم في تغيير الصورة النمطية عن المواطن الفلسطيني وخلق تضامن واسع مع قضيته.

ختاماً، ورغم استمرار الدعم الأمريكي غير المشروط للممارسات الإسرائيلية فضلاً عن السياسة المزدوجة فيما يخص القضية الفلسطينية كما اتضح في موقف إدارة بايدن تجاه الأحداث الأخيرة والذي جاء متسقاً مع مواقف كل الإدارات الأمريكية السابقة في انحيازها لإسرئيل، إلا أن التحولات التي حدثت داخل المجتمع الأمريكي وداخل الحزب الديمقراطي بالتحديد تمثل فرصة مهمة يجب استغلالها من قبل الحكومات والشعوب العربية لصالح القضية الفلسطينية. فالتفاعل مع القوى التقدمية وإعادة صياغة القضية الفلسطينية في لغة قضايا القرن الواحد والعشرين والعمل مع السلطة الفلسطينية على تصعيد النخب الشابة القادرة على التفاعل بشكل إيجابي مع المجتمع الدولي، قد يفرض زخماً ورأى عام داعماً لممارسة المزيد من الضغوط على إسرائيل. ويعد نموذج جنوب أفريقيا مهماً في هذا السياق، حيث نجحت حركات اجتماعية غربية في ممارسة ضغوط على حكوماتها اضطرتها لفرض عزلة دولية على جنوب أفريقيا مما فتح المجال أمام إنهاء سياسات الفصل العنصري.