تتعدد دلالات الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي إلى ليبيا، في 20 أبريل الجاري (2021) على رأس وفد وزاري كبير مكون من 11 وزيراً، لكن يظل أهمها هو الزيارة في حد ذاتها، التي تترجم الواقع الليبي الحالي في ظل حكومة الوحدة الوطنية، كإنجاز تحقق بعد عقد كامل من الصراع والانقسام في المشهد الليبي، وكانعكاس لدور مصر وتحركاتها من أجل تحقيق هذا الإنجاز عبر محطات عديدة، بداية من انطلاق مؤتمر برلين (يناير 2020)، مروراً بـ"إعلان القاهرة" (يونيو 2020) لوقف إطلاق النار، وما تبعه من احتضان مصر للعديد من الفاعليات الخاصة بالمسارات الثلاثة (السياسي والاقتصادي والعسكري والدستوري)، وصولاً إلى إنجاز الملتقى السياسي في جنيف (فبراير 2021). وتعتزم مصر مواصلة هذا الدور في المستقبل، لاستكمال تنفيذ خريطة الطريق السياسية الليبية وعبور المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار السياسي والأمني المستدام.
لقد تعددت مراحل الانتقال السياسي في ليبيا، خلال الفترة السابقة، لكنها لم تشهد هذا الزخم والحراك المتبادل على صعيد العلاقات المصرية- الليبية. فالزيارة الحكومية المصرية الرفيعة هى الأولى من نوعها منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي عام 2011، وهى أول زيارة لرئيس حكومة عربية إلى طرابلس، والأكبر من نوعها منذ إعلان تشكيل السلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا. كما كانت القاهرة هى قبلة أول زيارة خارجية علنية لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد دبيبة عقب توليه منصبه في فبراير 2021، وهو ما يعكس أولوية العلاقات لدى الطرفين في المرحلة الحالية وفي المستقبل.
وإجمالاً، يمكن القول إن المرحلة الانتقالية الحالية تمثل فاصلاً استراتيجياً في مسار العلاقات المصرية- الليبية، على مستوى الأداء ونمط إدارة هذه العلاقات من الجانبين. فأولوية ليبيا كدولة جوار استراتيجي بالنسبة لمصر لم تتغير بحكم محددات عريقة بطبيعة الحال تتمثل في الجغرافيا والتاريخ، وهو ما عبّر عنه رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي بالإشارة إلى "العلاقات الأبدية". لكن تطورات الحالة الليبية في المرحلة السابقة فرضت سياقاتها على طبيعة العلاقات، من حيث معادلة التوازنات السياسية في ظل تعدد القوى المتصارعة والمتنافسة على الساحة الليبية، وامتداداتها الخارجية، لاسيما خلال مرحلة الصخيرات (2016 – 2021). كذلك فإن تداعيات حالة الفوضى الليبية فرضت أولويات على أجندة العلاقات المصرية- الليبية خلال تلك الفترة، بالنظر لما تشكله تلك الفوضى من تهديدات للأمن القومي المصري.
مؤشرات جوهرية
يعكس البيان المشترك المصري- الليبي في ختام الزيارة جدول أعمال المرحلة المقبلة، ويتضمن البيان تحديد الأولويات، لكن قبل التطرق إلى هذه التفاصيل هناك عدة مؤشرات من المهم التطرق إليها أولاً فى سياق هذا البيان وهى:
1- إن إعادة الاستقرار الشامل إلى ليبيا تمثل مصلحة حيوية لمصر من منظور أمنها القومي، وهى قاعدة جوهرية في العلاقات المصرية- الليبية، يؤكد عليها حصاد ما يزيد على عقد من الزمن للتحركات المصرية تجاه ليبيا، وكلفة الأمن القومي الهائلة التي تحملتها مصر خلال هذه السنوات، وكأولوية استراتيجية أكدت عليها القيادة السياسية المصرية في أكثر من مناسبة، ربما أبرزها في خطاب المنطقة الغربية (20 يونيو 2020). فمن بين رسائل عديدة، كانت هناك ثلاث رسائل من الأهمية بمكان التوقف عندها، وردت في خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي تباعاً وهى: (الأمن القومي العربي والأمن القومي المصري والليبي يهتز، ولا نرغب في شىء إلا أمن واستقرار وسلامة ليبيا. إذا تحرك الشعب الليبي وطالبنا بالتدخل فهى إشارة للعالم على أن مصر وليبيا بلد واحد ومصالح واحدة وأمن واستقرار واحد. هدفنا سرعة دعم استعادة الأمن والاستقرار على الساحة الليبية، باعتباره جزءاً من الأمن القومي المصري". وبالتالى فإن زيارة الوفد المصري إلى ليبيا توضع في هذا الإطار قبل أن يتم وضعها في سياق الشراكة الاقتصادية أو غيرها من أنماط الشراكة المصرية- الليبية.
2- لم تكن مصر طرفاً في محاور إقليمية على الساحة الليبية في الفترة السابقة، وكان محدد تحركاتها على الساحة الليبية يقوم على مبادىء واضحة كما سلفت الإشارة، كما لم تندفع مصر إلى تأجيج الصراع في ليبيا، على الرغم من وضعها وقدراتها، بل وربما كانت هناك دوافع لا حصر لها تسمح لها بالتدخل العسكري المباشر، إلا أنها على العكس من ذلك انتهجت سياسة خفض التصعيد، مع التلويح بـ"الردع الاستراتيجي للقوة الرشيدة" عند الحاجة، وهى المعادلة التي جمّدت الصراع عند حدود "الخط الأحمر" الذي وضعته مصر، فى توقيت كان هناك من يراهن على وقوع صدام عسكري بين قوتين إقليميتين كبيرتين على الساحة الليبية.
ويقود هذا السياق بالتبعية إلى أن مصر ليست في مجال منافسة حالياً مع القوى الإقليمية الباحثة عن مصالحها في ليبيا، بل إن مصر تقر بمصالح هذه الأطراف على الساحة الليبية، على أن تبقى في سياقها الطبيعي، وألا تتحول إلى صراع على مكاسب وغنائم قابلة لإعادة إنتاج الصراع على الساحة الليبية مرة أخرى.
إن هناك رؤية مصرية واضحة بأن ثمة أولوية مرحلية على المدى القريب لدعم خريطة الطريق السياسية التي شاركت مصر في هندستها بشكل فاعل، ما يتطلب منها مضاعفة الجهود لاستكمال الإنجاز السياسي في المستقبل القريب. وهناك إشارات واضحة في البيان المشترك في هذا السياق مثل التأكيد على (تنسيق الجهود في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة، وصياغة الخطوط العريضة لمسار التعاون المشترك)، وبالتالي هناك إدراك واضح لطبيعة اللحظة وأهميتها، حيث تواصل القاهرة جهودها سواء مع السلطة الانتقالية أو القوى والأطراف الدولية والإقليمية لاستمرار تثبيت وقف إطلاق النار، باعتباره المكتسب الرئيسي الأول، ثم تنفيذ مخرجات لقاء جنيف الخاص بالملف الأمني من حيث إخراج المرتزقة من البلاد، وتقويض مظاهر الوجود العسكري الأجنبي في البلاد، وتوحيد كامل المؤسسات الليبية لإنهاء مظاهر الانقسام السياسي والعسكري. يلي ذلك تقديم الدعم والخبرات المصرية فى المجالات المختلفة لمساعدة ليبيا على استعادة مظاهر الحياة الطببيعة، على مستوى إعادة الإعمار بشكل عام.
3- استئناف العلاقات الدبلوماسية، كأحد مظاهر العودة الطبيعة للعلاقات المصرية- الليبية، هو في واقع الأمر دلالة أخرى على قناعة مصر باختلاف الأوضاع في ليبيا عن ما كانت عليه في السابق، وثقة في حكومة الوحدة الوطنية التي طوت مرحلة تعدد الحكومات في ليبيا بين شرق وغرب البلاد، وأن البيئة أصبحت آمنة نسبياً للإقدام على تلك الخطوة، إضافة إلى الحاجة لوجود آلية تنسيق حيوية في ظل جدول الأعمال المشترك الحافل بالكثير من الملفات، حيث تم الإعلان عن أنه سيتم إعادة فتح السفارة المصرية في ليبيا في غضون أسابيع من تلك الزيارة، لمواصلة التنسيق المشترك حول جدول أعمال المرحلة الانتقالية، لاسيما المسار السياسي والأمني، وكآلية لتنظيم المصالح المشتركة، في إطار اتفاقيات ومذكرات التعاون المشتركة في المجالات التي ستنخرط فيها مصر على الساحة الليبية، وتنظيم الحركة والتنقل على الجانبين. إضافة إلى الدور الرئيسي الذي ستساهم فيه مصر في مشروعات إعادة الإعمار سواء خلال المرحلة الانتقالية الحالية أو ما بعدها. وستعزز الآلية الدبلوماسية من دور الآلية الأوسع المتمثلة في اللجنة العليا المشتركة المصرية- الليبية، والتي تتضمن لجاناً قطاعية متخصصة، وتم الاتفاق على انعقاد هذه اللجنة قريباً.
وثيقة استراتيجية
يعد البيان المشترك في ختام الزيارة وثيقة استراتيجية جديدة للعلاقات المصرية- الليبية، تتضمن المحددات التالية:
1- الأمن القومي المشترك: ويرتبط تحديداً بملف مكافحة الإرهاب، والذي يتضمن عدداً من المحاور وهى: إنشاء منظومة معلومات وقاعدة بيانات مشتركة لمكافحة الإرهاب، ورصد ومتابعة وتبادل المعلومات حول الأنشطة الإرهابية، وحصر العناصر الإرهابية في البلدين، وإعداد دليل موحد للعناصر المطلوبة، والمشتبه فيها، وتسيير دوريات حدودية مشتركة، وإقامة نقاط أمنية ومراقبة على طول الحدود البرية والبحرية، والتعبئة العامة ضد تمويل الإرهاب، وتبادل الخبرات بين البلدين في هذا المجال، وتشكيل قوات مشتركة بين البلدين لمكافحة الإرهاب ميدانياً وفكرياً وإعلامياً، ووضع قاعدة بيانات ومراقبة المعاملات المالية، وتمويل الجمعيات الخيرية، والعمل على إنشاء هيئة مشتركة لمكافحة تبييض الأموال، وكذلك مكافحة الجريمة المنظمة، والهجرة غير الشرعية، وتأسيس تعاون واسع في مجال التدريب والتأهيل في الميادين المختلفة، وذلك بحسب الحاجة إليها، وما تقتضيه المصلحة بالخصوص.
2- البنية المؤسسية الأمنية المشتركة لمكافحة الإرهاب: يتضح من الاتفاق أن هناك معالجة احترافية لهذا الجانب، بالنظر لأكثر من عامل، حيث تم الاتفاق على تأسيس القاعدة المعرفية والمعلوماتية، وآلية التبادل داخل هذه المنظومة، وهى خطوة عملية متقدمة للغاية في إطار عملية مكافحة الأرهاب، يلي ذلك إنشاء الآلية المشتركة (القوة الأمنية المشتركة لمكافحة الإرهاب)، وهو ما يساهم في توسيع نطاق التعاون على المستوى الهيكلي والميداني في الوقت نفسه، ما يعني انخراط مصر بشكل مباشر في عملية مكافحة الإرهاب في ليبيا في إطار الشراكة المصرية- الليبية، سواء في سياق خطة قوة المكافحة الميدانية، أو حتى قبل ذلك في عملية تأهيل هذه القوة وإمدادها بالخبرة اللازمة للقيام بدورها.
ربما يكون الاتفاق على هذا النحو مدخلاً مهماً لحلحلة الأزمة التي تشهدها المؤسسات الأمنية الليبية، خاصة وأن مصر تؤسس علاقات جيدة مع القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، كما أن استضافتها للمسار العسكري (5+5) سيسهم في ترتيب هذه الأوضاع. بالإضافة إلى أن رئيس الوزراء الليبي هو وزير الدفاع في الوقت نفسه، ومن ثم فهناك توافق على مستوى المنظومة الأمنية والعسكرية الليبية، وربما سيتطلب الأمر في وقت لاحق ترتيب بعض الخطوات في هذا الملف مع المجلس الرئاسي باعتباره (القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية). وهناك مؤشرات واضحة على أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي يدعم هذه التطورات.
3- استئناف عملية توحيد المؤسسة العسكرية الليبية: التي عكفت عليها مصر لسنوات مع الأطراف الليبية المختلفة (2016، 2018). وقد نصت وثيقة برلين- التي تعد الوثيقة المرجعية للمرحلة الانتقالية الحالية- على ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية وأحالت مرجعية عملية التوحيد إلى دور مصر في هذا الملف. ووفقاً للاتفاق بين الحكومتين المصرية والليبية، هناك ضرورة حتمية للإسراع في إنجاز هذا الملف، لاعتبارات تتعلق بالظروف الأمنية وأيضاً جدول الأعمال السياسي الخاص بالمرحلة الانتقالية، إذ سيكون من الصعوبة بمكان إجراء عملية الانتخابات في ظل الانقسام الأمني الحالي. كذلك من المتصور أن اللحظة الحالية هى لحظة استثنائية ومُحفِّزة لحل معضلة المؤسسة العسكرية، خاصة وأن معظم المؤسسات الليبية الأخرى تم توحيدها، فضلاً عن أن الاتجاه الدولي داعم لهذا المسار، وهو ما يعكسه قرار مجلس الأمن الذي صدر بالإجماع في مارس الفائت وأقر بضرورة إنهاء مسببات الفوضى والانقسام، وإعادة هيكلة المؤسسات الأمنية.
لكن يظل من الأهمية بمكان معالجة العديد من التحديات التي يمكن أن تعرقل خطوات التقدم في هذا الملف، سواء كانت تحديات سياسية، حيث لا تزال هناك قوى محلية وأطراف دولية تعمل من الناحية التكتيكية على الإبقاء على حالة الانقسام بل والإبقاء على مجموعات من المرتزقة لحين الانتهاء من المرحلة الانتقالية وانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات، وترى أن هذه الأدوات يمكن أن تلعب دوراً في تلك المرحلة، أو كانت تحديات أمنية أخرى تتصدرها مصالح الميليشيات ذاتها التي ستدافع عن بقائها وتوظف الانقسام المؤسسي لصالحها.
4- تحييد آثار التدخلات الإقليمية والدولية: وهى نقطة مهمة أيضاً في سياق الدروس المستفادة من التجربة الماضية، والتي أشار إليها الاتفاق على النحو التالي: (وضع صيغة للعلاقات بين البلدين وفق رؤية جديدة من منظور التطور في العلاقات الإقليمية والدولية، وما يفرضه من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية، وبما يؤدي إلى تجنيب البلدين أى تدخلات خارجية إقليمية أو دولية، وبما يحول دون اصطفافهما في محاور أو تكتلات مشبوهة أو معادية لأى منهما، ويطلبان التسريع بخروج التشكيلات الأجنبية المسلحة من الأراضي الليبية).
5- برنامج شراكة متعدد المجالات: بالإضافة إلى الشراكة الأمنية، نص الاتفاق على شراكات في مجالات متعددة على المستويات الاقتصادية والثقافية والإعلامية ومجالات الصحة والطاقة والتعليم، حيث تم توقيع نحو 11 مذكرة تفاهم بين البلدين، ومن المتصور أن جزءاً رئيسياً من برنامج الشراكة يتعلق بعملية إعادة الإعمار في ليبيا والتي ستساهم مصر فى قطاعات عديدة منها، وربما يشكل هذا الاتفاق نقطة تحول بشكل عام في خبرة مصر فى مجال إعادة الإعمار، لاسيما ما يتعلق بعملية تنظيم المشاركة والخبرة المصرية فى هذا المجال، باعتباره أحد المجالات التي توليها مصر اهتماماً من منطلق دورها الإقليمي، وفي إطار نقل خبرة التنمية المصرية التي نجحت في تشكيل نموذج جاذب إقليمياً، وهو ما استرعى انتباه رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد دبيبة وأشار إليه لدى زيارته الأولى لمصر، حيث أكد على حاجة ليبيا إلى دور مصر في هذا المجال.
في المحصلة الأخيرة، يمكن القول إن ما تمخضت عنه زيارة رئيس الحكومة المصرية الدكتور مصطفى مدبولي إلى ليبيا يمثل عملية إعادة تأسيس للعلاقات المصرية- الليبية في إطار الشراكة الاستراتيجية، وتنظيم أولويات هذه العلاقات، وإدارتها عبر هياكل مؤسسية واضحة، إذ أن توسيع نطاق الانخراط المصري على الساحة الليبية يرتبط بمحدد رئيسي وهو التعاون في إطار وحدة المشتركات على الأصعدة المتعددة، وفي المقدمة منها مشتركات الأمن القومي، كأولوية مستدامة لاستعادة الاستقرار في ليبيا، يليها بطبيعة الحال المصالح المشتركة على الأصعدة الأخرى لاسيما الاقتصادي.