قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2021-2-11
رابحة سيف علام

خبيرة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية

احمد كامل البحيري

باحث متخصص في شئون الإرهاب - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

نشر الصحفي الأمريكي مارتن سميث صورة جمعته مع قائد تنظيم "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) أبو محمد الجولاني، عبر حسابه على موقع "تويتر" في 2 فبراير الجاري. وعلّق على الصورة بقوله: "عدت للتو من زيارة إلى إدلب استغرقت 3 أيام، التقيت فيها بمؤسس جماعة جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة، وتحدثنا عن هجمات 11 سبتمبر 2001، وعن القاعدة وعن أمريكا". وكان لافتاً أن الجولاني ظهر في هذا اللقاء لأول مرة بزى عصري مختلف عن الزى الديني التقليدي أو الزى العسكري والذي كان دائم الظهور به منذ نشأة التنظيم الإرهابي في يناير 2012.

هذا اللقاء الذي جمع الجولاني بالصحفي الأمريكي، لم يكن الأول من نوعه، إذ سبقه لقاء مماثل في يناير 2020 بـ"مجموعة الأزمات الدولية"، وكانت حينها من أولى المرات التي تتصل فيها جهة غربية كهذه المجموعة بتنظيم محسوب على "القاعدة". لكن اللقاء الأخير أثار العديد من التساؤلات ليس فقط فيما يتعلق بتفاصيله وتوقيته، ولكن أيضاً فيما يتصل بالتحولات التي تجري في بنية تنظيم "هيئة تحرير الشام" خلال الأعوام الأخيرة وما قد ينشأ عنها من تغييرات تؤثر على مجمل المشهد السوري وسبل التسوية السياسية للصراع الذي اتخذ منحى مسلحاً منذ انخراط "جبهة النصرة" فيه عام 2012. كما تؤثر هذه التحولات على مستقبل التنظيم الإرهابي الذي تمثله "الهيئة". فهل هى محاولة لإعادة هيكلة التنظيم الإرهابي من أجل إعادة توظيفه مرة أخرى في الصراع السوري لحساب قوى دولية وإقليمية؟

"ذيل القاعدة" في سوريا

نشأت "جبهة النصرة" في سوريا منذ صيف عام 2011 استجابة لرسالة أطلقها زعيم "القاعدة"، آنذاك أيمن الظواهري، يدعو فيها إلى "نصرة أهل الشام لمواكبة المظاهرات السلمية التي كانت قد بدأت قبل أشهر في سوريا للمطالبة بإصلاح النظام". ونُسبت إلى "الجبهة" باكورة العمليات الإرهابية التي بدأت تتوالى في سوريا منذ يناير 2012. ففي مقابل المظاهرات السلمية المطالبة بالإصلاح والتي انتظم فيها الشباب السوري آنذاك، بدأت "الجبهة" تنشط لتجنيد الشباب السوري والعربي والأجنبي على أجندة جهادية عالمية تقضي بـ"قتال النظام السوري على أساس طائفي متشدد". ومن ثم، كانت "النصرة" بؤرة تجنيد إرهابية عالمية للشباب المتطرف الراغب في الانخراط في القتال في سوريا، وضمت جنسيات متعددة إلى جانب السوريين مثل العراقيين واللبنانيين والخليجيين والتوانسة والمغاربة والأوروبيين وغيرهم. غير أنه، ومنذ إبريل 2013، نشأ الشقاق الشهير بين "الجبهة" في سوريا وتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق"، حيث ادعى القائد السابق للتنظيم الأخير أبو بكر البغدادي أن "النصرة تؤتمر بأمره وأصبحت تابعة له" في كيان جديد اتخذ اسم "الدولة الإسلامية بالعراق والشام" وسُمى اختصاراً "داعش". بينما رفض أبو محمد الجولاني هذا الإعلان وجدد صلته وولائه لتنظيم "القاعدة" العالمي ورفض التبعية للكيان الجديد أو الانضواء تحت زعامة البغدادي.

هذا الخلاف أدى إلى سلسلة من المعارك البينية بين الألوية المسلحة التابعة لـ"النصرة" وتلك التابعة لـ"داعش" والتي تعمل على الأراضي السورية. لكن منذ أغسطس 2014 صعد نجم "داعش" بقوة وتمكن من الاستيلاء على الموصل وأجزاء واسعة من شمال العراق وصولاً إلى إسقاط الحدود بين سوريا والعراق والسيطرة على مساحات واسعة في البلدين تضم ما لا يقل عن ثمانية ملايين نسمة. وإزاء هذا الصعود الكبير لـ"داعش"، تلقت "الجبهة" ضربة قوية بانشقاق مجموعات كبيرة من الألوية التابعة لها والتحاقها بـ"داعش" الذي أصبح البؤرة الأكثر تأثيراً في شبكات الجهاد العالمي ومحط أنظار الشباب المتطرف الراغب في القتال في سوريا خاصةً من الغرب.

ودفع ذلك "النصرة" إلى إعادة ترتيب صفوفها والبحث عن تجنيد الشباب من المناطق السورية الفقيرة الواقعة تحت سيطرتها، خاصة في إدلب، بالإضافة إلى المناطق الفقيرة في شمال لبنان والمحاذية للحدود السورية. وقد تبنت خطاباً يستند على التحريض الطائفي بين السنة والشيعة، ودعت لمواجهة مخططات إيران في المنطقة لجذب الشباب اللبناني السُني الحانق على تصاعد نفوذ الشيعة. وقد نجح الترويج لهذا الخطاب في مد "الجبهة" بالشباب المتطرف، وسمح لها بإعادة ترتيب صفوفها، وهو ما دفع الجيش اللبناني إلى خوض معارك ضارية في المناطق الحدودية لتطهيرها من البؤر التابعة لتنظيم "القاعدة" والمتحالفة مع "النصرة".

محاولات الإفلات من العقاب

وفيما كان "داعش" يؤسس لنفوذه في مناطق شاسعة من سوريا والعراق ويحظى بالاهتمام العالمي وتنصب عليه جهود مكافحة الإرهاب، كانت "النصرة" تؤسس لنفوذ أكثر رسوخاً على مساحة جغرافية محدودة من شمال سوريا. إذ عززت من وجودها في منطقة إدلب وريفها، وعقدت تحالفات واسعة مع المجموعات المسلحة العاملة في هذه المنطقة وتزعمتها وأصبحت لها اليد العليا فيها. واعتمدت إستراتيجيتها على البعد عن أجندة "الجهاد العالمي" التي تجذب الأنظار وتجلب الضربات الجوية، كما كان الحال مع "داعش" آنذاك، حيث أصبحت تركز على التحالف مع المجموعات المسلحة المحلية لكى تنفي عن نفسها صفة "الجهاد العالمي" المستوجب للمكافحة الدولية. ومن هنا تزعمت "النصرة" مجموعة من الميليشيات المسلحة السورية ضمن تحالف "جبهة فتح الشام" في يوليو 2016، وشنت معارك واسعة للسيطرة على عدة مناطق من الشمال واقتنصتها من النظام السوري. ثم عاود أبو محمد الجولاني التحول بجماعته مرة أخرى في يناير 2017 تحت مسمى "جبهة تحرير الشام" لتضم تحالفاً أوسع مع الميليشيات المسلحة في إدلب وتبتعد أكثر فأكثر عن خطاب "القاعدة". وكان ذلك جلياً عندما دبت الخلافات الشديدة بين قيادات "هيئة تحرير الشام" حول تخليها عن خط "القاعدة" ومحاولة التحول إلى فصيل محلي مثل بقية الفصائل السورية. وهنا بدأت سلسلة من الاغتيالات للجناح المتشدد داخل "النصرة" الذي يرفض الابتعاد عن خط "القاعدة"، كما بدأت مجموعات أخرى أشد ارتباطاً بـ"القاعدة" تناصبها العداء وأبرزها "حراس الدين" و"الحزب الإسلامي التركستاني".

غير أن هذه المحاولات المتتالية للتحول والتلون لم تفلح في تغيير حقيقة "هيئة تحرير الشام"، والتي كانت قد أُدرجت على قائمة الإرهاب لوزارة الخارجية الأمريكية وأصبح زعيمها الجولاني على قوائم المنع الخاصة بالإرهابيين العالميين منذ مايو 2013 وخصصت مكافأة لاعتقاله تبلغ عشرة ملايين دولار. كما خضعت "النصرة" أيضاً وزعيمها الجولاني -ولا يزالون- لعقوبات قائمة الإرهاب وفقاً لمجلس الأمن الدولي منذ 24 يوليو 2013.

كسر العزلة

يشير تحليل بيانات ورسائل التنظيم خلال العامين الماضيين، إلى أن الجولاني بات يركز على انتهاء مفهوم "الجهاد العابر للحدود" وفك الارتباط مع "القاعدة" وتجديد هوية تنظيم "هيئة تحرير الشام" كجماعة معارضة مسلحة سورية لمواجهة الخطر الإيراني والداعمة للأجندة التركية في مواجهة النظام السوري. كما دأب الجولاني في الفترة الأخيرة على التجول في أنحاء إدلب، خاصة في مناطق مخيمات النازحين، لكى يستمع إلى شكاوى الأهالي من نقص الخدمات وتردي الأوضاع المعيشية وكأنه "زعيم سياسي" محلي وليس إرهابياً مطلوباً على القوائم الدولية للإرهاب. ومن ثم، يهدف الجولاني من خلال الظهور الإعلامي مع صحفيين غربيين إلى كسر العزلة الدولية المفروضة على تنظيمه الإرهابي ومحاولة إعادة التسويق الإعلامي والسياسي لنفسه.

وفي أواخر عام 2019 اعتبر الجولاني في كلمة بعنوان "حرب تحرر واستقلال" أن "الانتصار ضد النظام السوري قد تحقق وأن القتال في سوريا دخل مرحلة جديدة هى مرحلة مقاومة الاحتلالين الروسي والإيراني". وأعقب هذا الظهور حوار له مع "مجموعة الأزمات الدولية" في فبراير 2020، حيث أكد في المقابلة تخليه عن طموحاته الجهادية العابرة للحدود وأنه يركز فقط على حكم المنطقة الواقعة تحت سيطرته بالفعل. كما بث التنظيم رسالة في 7 أكتوبر 2020 مفادها الدعوة لإعادة تشكيل المستويات العسكرية للتنظيم لتدل على بدء "الهيئة" في تنفيذ تصوره حول انتهاء النسق والمسار الجهادي للتنظيم والتحول لقوة مسلحة محلية معارضة.

وبالتوازي مع ذلك، أجرى التنظيم إعادة هيكلة في الألوية العسكرية التابعة له والمكونة من إثنى عشر لواءاً، منها ستة ألوية مقاتلة وستة ألوية تضطلع بأعمال الأمن الداخلي وإدارة الحواجز والمعابر بين المناطق. بالإضافة إلى تعليق استخدام المفخخات والعمليات الانتحارية التي كانت من أهم أدواتها العسكرية. فيما يتواصل العمل العسكري لـ"الهيئة" جنباً إلى جنب مع الأنشطة الأخرى مثل عمليات التهريب وإدارة المعابر الداخلية، والتي تدُر ثروات كبيرة على قادة التنظيم.

معضلة إدلب

عندما توالت حلقات مباحثات آستانة منذ يناير 2017 برعاية روسية - تركية - إيرانية كان الهدف منها هو حل الصراعات المسلحة في نطاقات جغرافية متفرقة على الرقعة السورية. وفيما كانت المناطق الواقعة تحت سيطرة "داعش" تتحرر الواحدة تلو الأخرى بفعل القوة العسكرية، سواء برعاية أمريكية أو روسية، كانت المناطق الواقعة تحت سيطرة المجموعات السورية المعارضة تخضع لاتفاقات محلية برعاية الروس لإخراج المسلحين وتسليم أسلحتهم وعودة الحياة إلى طبيعتها وإعادة سلطة النظام السوري إليها. لكن بقيت إدلب معضلة أساسية غير قابلة للحل ضمن اتفاقات آستانة، إذ شهدت اتفاقات متكررة لوقف إطلاق النار سرعان ما يتم خرقها. كما بقى كل من "داعش" و"النصرة"- بنسخها المتعددة وصولاً إلى "هيئة تحرير الشام"- محرومين من المشاركة في مفاوضات الحل النهائي، سواء في آستانة أو في جنيف، وهو ما جعل لتحولات الجولاني أهمية كبيرة للتنظيم، فطالما ظل يتمسك بخطط الجهاد العالمي والتبعية لـ"القاعدة"، سيبقى محروماً من المشاركة في تسويات الحل النهائي في سوريا على عكس بقية الفصائل. ومن هنا، بدأت محاولاته الحثيثة للتخلص من عبء "القاعدة" والتلاقي مع المجموعات السورية الموجودة في إدلب للاندماج معها في نسيج واحد ضمن تحالفات أوسع. غير أن هذه المحاولات لم تفلح في إقناع العالم بـ"القناع الجديد" ولكنها سببت مشكلة إنسانية كبيرة لإدلب وسكانها الذين يقدر عددهم بعد توالي النزوح إليها بنحو ثلاثة ملايين نسمة.  

وتتعرض إدلب وريفها لعمليات عسكرية متتالية وضربات جوية من جانب النظام السوري وحليفه الروسي من أجل السيطرة العسكرية عليها وإعادة ضمها لسلطته. غير أن الحسم العسكري لا يقدم أى حل ملموس في ظل الاكتظاظ السكاني للمدنيين في إدلب، بل يُخلِّف المزيد من الخسائر في البنية التحتية للمرافق والمدارس والأسواق والمستشفيات ويدفع المزيد من السكان للنزوح إلى مناطق نائية والسكن في مخيمات غير مجهزة ومحرومة من كافة الخدمات الأساسية. وفي المقابل، تتلكأ تركيا باستمرار في حل الأزمة في إدلب بدعوى عدم قدرتها على السيطرة على "هيئة تحرير الشام" وصعوبة التوصل معها لاتفاق شامل. غير أن سلطة "الهيئة" ترتبط في الحقيقة بإحكام السيطرة على المعابر الحدودية مع مناطق النظام السوري من جهة، ومع الحدود التركية من جهة أخرى، وهى الإدارة الحدودية التي تمكنها من تحقيق ثروات هائلة من خلال التحكم بحركة البضائع والتهريب وفرض الرسوم والجمارك وغيرها من الأنشطة المُدِرَّة للدخل. وفيما تدّعي "الهيئة" قيامها بتوفير احتياجات السكان المحليين من خلال "حكومة الإنقاذ" التي تديرها، فإنها في الحقيقة تتخذ من هؤلاء المدنيين رهائن كى تضمن عدم إقدام القوى الدولية على أية عمليات للحسم العسكري في إدلب. فحكومة الإنقاذ تلك نشأت من نواة من مجموعة من القوى المحلية المدنية التي نشطت في توفير الاحتياجات الأساسية للمدنيين في إدلب، خاصة مع اشتداد المعارك العسكرية وتكرار انقطاع الخدمات وتزايد موجات النزوح. غير أن اليد الطولى لـ"الهيئة" تمكنت من تحييد كل العناصر المستقلة ضمن هذه الحكومة ووضعتها بالكامل تحت وصايتها فأصبحت تابعة لها خاصة في الأمور الأمنية والعسكرية. وتكررت شكاوى المدنيين من الإقصاء والاعتقال والملاحقة واغتيال النشطاء المدنيين الذي يعترضون على أسلوب إدارة "الهيئة" لإدلب.

حسابات أنقرة

في هذا السياق، تواصل تركيا تقديم دعمها وحمايتها لـ"الهيئة" كى يستمر الوضع القائم، فتبقى إدلب خارجة عن سيطرة النظام السوري، كما تبقى حلب تحت سيطرة الميليشيات الموالية لها. وفيما تركز أنقرة جهودها على تجريد القوات الكردية من سيطرتها على الشمال الشرقي السوري، تبقى هادئة البال إزاء سيطرة "الهيئة" على إدلب.

ولا تنفصل "الهيئة" عن الأدوات التركية للسيطرة على الشمال السوري؛ فرغم أن الثقل الأساسي للميليشيات الموالية لأنقرة يقع في محافظة حلب وبالأخص في أجزائها الشمالية، فإن استمرار الفوضى في إدلب يخدم بلا شك الأهداف التركية. ذلك أن الإبقاء على المحافظة في ظروف معيشية صعبة، وتحت رحمة القصف الجوي المتكرر وانعدام شبه كامل لكافة الخدمات الأساسية يجعل منها "خزاناً مهماً" للعناصر الراغبة في الالتحاق بالقتال، سواء لأهداف عقائدية متطرفة أو كمرتزقة لتلقي أجور مقابل مشاركتهم في القتال، وهو ما يعني أن استمرار الوضع الإنساني المتردي في إدلب يجعل من شبابها صيداً سهلاً لمتعهدي شحن المرتزقة لحساب أنقرة للقتال، سواء في ليبيا أو إقليم ناغورني قره باغ. وبالتالي، فإن إعادة تلميع صورة "هيئة تحرير الشام" والظهور المتكرر لزعيمها الإرهابي الجولاني يهدف إلى إعادة صياغة خريطة التنظيمات الإرهابية المرتبطة بتركيا ومحاولة إيجاد موطئ قدم لها في أى مفاوضات قادمة للتسوية السورية، وهو بدوره يعكس طمع الجولاني في الحصول على الشرعية لتنظيمه رغم تاريخه الإرهابي المرتبط بـ"القاعدة"، تماماً كما حصلت حركة "طالبان" الأفغانية على هذه الشرعية في المفاوضات التي جمعتها مع الولايات المتحدة. ويعني ذلك في النهاية أن الجولاني يهدف إلى رفع اسم تنظيمه من قوائم الإرهاب وتبييض ساحته والاستعداد لمرحلة تحريك المياة الراكدة في الأزمة السورية.

* نشر أيضا بجريدة بالأهرام، 11 فبراير 2021.