د. دينا شحاتة

رئيس وحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

توقع العديد من المراقبين،ومنهم كاتبة هذه السطور، أن تؤدي التطورات الأخيرة في الولايات المتحدة إلى تراجع نفوذ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وتيار اليمين المتطرف وتصاعد نفوذ تيار يمين الوسط أو التيار المعتدل داخل الحزب الجمهوري، خاصة وأن الفترة الأخيرة شهدت الكثير من الأحداث التي أدت إلى تراجع الحزب الجمهوري بقيادة ترامب، ومنها هزيمة الأخير في الانتخابات الرئاسية وفوز الحزب الديمقراطي بأغلبية المقاعد في مجلسى النواب والشيوخ، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار السياسي التي نتجت عن رفض ترامب وقطاع كبير من أنصاره الاعتراف بنجاح الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية وتبنيهم لخطاب تحريضي أدى في 6 يناير 2021 إلى اقتحام مبنى الكونجرس الأمريكي في محاولة لتعطيل عملية انتقال السلطة إلى الحزب الديمقراطي.

وفي الأيام التالية على اقتحام الكونجرس، تعرَّض ترامب واليمين المتطرف لحملة هجوم واسعة من داخل الحزب الجمهوري، اعتبرها البعض بداية لحدوث انقسام داخل الحزب ومؤشراً على انشقاق تيار يمين الوسط عن تيار اليمين المتطرف. ومن مظاهر هذا الانقسام قيام مايك بنس نائب الرئيس السابق بالانقلاب على ترامب ورفضه تأييد محاولاته لتعطيل عملية التصديق على نتائج الانتخابات وقيامه باستدعاء الحرس الوطني لاحتواء أحداث اقتحام الكونجرس، بعد أن رفض ترامب القيام بذلك بالإضافة إلى حضوره حفل تنصيب بايدن رغم امتناع ترامب عن الحضور.

ومن ناحية أخرى، قامت قيادات في الحزب الجمهوري، مثل ميتش ماكونل زعيم الحزب في مجلس الشيوخ وكيفين ماكارثي زعيمه في مجلس النواب، بإدانة عملية اقتحام الكونجرس واتهام ترامب بتحريض أنصاره على العنف والتمرد. كما أيد ماكونل اتخاذ إجراءات عقابية ضد الرئيس السابق، هذا بالإضافة إلى قيام 10 نواب جمهوريين، ومنهم ليز شيني وميت رومني وهم من رموز التيار المعتدل داخل الحزب الجمهوري، بالتصويت لصالح مشروع قانون تقدم به الحزب الديمقراطي لعزل ومحاكمة ترامب ومعاقبته على التحريض على العنف.

استعادة المبادرة

في حينها، تم النظر إلى هذه التطورات داخل الحزب الجمهوري على أنها بداية عودة تيار يمين الوسط إلى صدارة المشهد بعد تهميشه خلال سنوات ترامب، ومؤشر على تراجع ظاهرة ترامب واليمين المتطرف. إلا أن هذا لم يتحقق على أرض الواقع، حيث أنه في أعقاب تنصيب بايدن استعاد ترامب وأنصاره توازنهم وبدأوا في شن هجوم مضاد على تيار الاعتدال، وقد نجح هذا الهجوم المضاد، إلى حد كبير، في استعادة ترامب وحلفائه سيطرتهم على الحزب الجمهوري.

وقام ترامب وأنصاره بشن هجوم على قيادات الحزب الجمهوري الذين رفضوا رواية تزوير الانتخابات وصدَّقواً على نتائجها، مثل مايك بنس وميتش ماكونل. وتشير كل استطلاعات الرأى إلى أن شعبية هؤلاء تراجعت بشكل كبير في أوساط قواعد الحزب الجمهوري مقارنة بشعبية ترامب. وقد دفع الهجوم الذي شنه الأخير ضد قيادات الحزب إلى تراجع هؤلاء عن مواقفهم المناوئة له في أعقاب اقتحام الكونجرس، حيث قام ماكارثي بزيارة ترامب في منزله في فلوريدا في محاولة لاسترضائه، كما قام ماكونل و45 من 50 نائب في مجلس الشيوخ بالتصويت لصالح مشروع قانون ينص على أن محاولة عزل ترامب ومحاكمته أصبحت غير دستورية لأن مدة رئاسته انتهت، ومن المتوقع أن يقوم نواب الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ بالتصويت ضد أى إجراءات عقابية تنتج عن محاكمة ترامب في مجلس الشيوخ.

وقام ترامب وأنصاره أيضاً بشن حملة ضد النواب الجمهوريين العشرة الذي صوَّتوا لصالح مشروع قرار عزله ومحاكمته وتوعدهم بدعم مرشحين منافسين لهم في انتخابات الكونجرس القادمة عام 2022. كما استخدم أنصاره نفوذهم الواسع على مستوى حكومات الولايات للضغط على هؤلاء النواب في دوائرهم. ففي ولاية وايومنج، قام مات جاتز أحد النواب المناصرين لترامب بتنظيم مظاهرة ضد ليز شيني بعد تصويتها لصالح قرار عزله. كما قام مجلس نواب الولاية بتوجيه توبيخ رسمي ضدها. وتقدم نواب في الحزب الجمهوري بطلب بعزلها من منصبها في قيادة الحزب وتم التصويت السري على هذا المتقرح إلا أن أغلبية النواب صوتت ضده. وقد أدت هذه الإجراءات ضد معارضي ترامب داخل الحزب إلى تراجع الكثير من قياداته عن انتقاده أو معارضته خوفاً من انقلاب قواعدهم الانتخابية عليهم في الانتخابات النيابية القادمة عام 2022 وقيام ترامب وأنصاره بدعم مرشحين منافسين لهم، خاصة أنهم يتمتعون بشعبية واسعة على مستوى الولايات.

من ناحية أخرى، شن ترامب وأنصاره حملة للدفاع عن النواب المؤيدين له في الكونجرس، والذين تعرضوا لهجوم واسع بعد أحداث اقتحامه، وكانت هناك مطالب بفصلهم من مجلس النواب بسبب تحريضهم على العنف ورفضهم التصديق على نتائج الانتخابات وترديدهم لرواية تزوير الانتخابات رغم انتفاء الدلائل. بل إن بعضهم، مثل النائبة مارجوري تايلر جرين الممثلة لولاية جورجيا والمنتمية لحركة كيو- انون الراديكالية، أيد على مواقع التواصل الاجتماعي "اغتيال" قيادات في الحزب الديمقراطي مثل نانسي بيلوسي، وقد ادعت جرين أن حوادث إطلاق النار في عدد من المدارس في السنوات الأخيرة كانت مجرد مسرحية ضد المدافعين عن حق حمل السلاح. وبالرغم من ثبوت هذه الادعاءات، إلا أن ترامب قام بالدفاع عنها ورفضت قيادات الحزب الجمهوري فصلها واتخاذ إجراءات عقابية ضدها، ومن المتوقع أن يقوم ترامب وأنصاره بدعم عدد أكبر من المرشحين المتطرفين مثل تايلور جرين في الانتخابات النيابية القادمة.

ظاهرة مستمرة

تطرح هذه التطورات تساؤلات مهمة حول أسباب استمرار شعبية ونفوذ ترامب دخل الحزب الجمهوري رغم فشل الحزب في الانتخابات الرئاسية والنيابية الأخيرة ورغم حالة الاستقطاب والعنف المجتمعي التي أنتجتها سياساته في السنوات الأربع الماضية، حيث يرى الكثير من المراقبين أن التطورات الأخيرة تؤكد أن ظاهرة ترامب والترامبية مستمرة داخل الحزب الجمهوري في السنوات القادمة وأن ترامب من المرجح أن يترشح في الانتخابات الرئاسية عام 2024.

ولفهم استمرارية وهيمنة ظاهرة ترامب على قواعد الحزب الجمهوري خاصة على مستوى الولايات الغربية والجنوبية وفي أوساط الطبقة العاملة والوسطى البيضاء المسيحية، من المهم إدراك أن هذه الفئة لها مظالم ومطالب حقيقية وأن ظاهرة ترامب واليمين المتطرف مستمرة طالما أن هذه الكتلة لم تجد تياراً آخر يعبر عن مظالمها ويمثل مطالبها. فالطبقة العاملة والوسطى البيضاء تأثرت بشكل سلبي من سياسات العولمة والتجارة الحرة والهجرة والتمييز الإيجابي التي تبنتها الحكومة الأمريكية في العقود الأخيرة.

وكان ترامب المرشح الوحيد الذي نجح في فهم طبيعة مظالم هذه الفئة وتبنى سياسات تتوافق مع مصالحها وفي مقدمتها سياسات تقييد التجارة الحرة لاسيما مع الصين ووقف الهجرة إلى الولايات المتحدة خاصة من دول أمريكا اللاتينية، وقد حظيت هذه السياسات بدعم واسع من قواعد الحزب الجمهوري مما يفسر قيام أكثر من 74 مليون ناخب بالتصويت له في الانتخابات الأخيرة واستمرارهم في دعمه للانتخابات القادمة.

 ويرى الكثير من المحللين أن ترامب المرشح الوحيد في السنوات الأخيرة الذي نجح في تشكيل كتلة تصويتية عريضة محافظة وشعبوية تجمع بين قطاع من النخبة الرأسمالية يرفض سياسات العولمة والتجارة الحرة وقطاع من الطبقة الوسطى الأمريكية المسيحية المحافظة المناهضة للتعددية الثقافية والتمييز الإيجابي وللحريات الجنسية والإنجابية وقطاع من الطبقة العاملة الرافضة لسياسات العولمة والهجرة والتجارة الحرة. هذا التحالف المحافظ الشعبوي الذي شكله ترامب مازال قادراً علي تحقيق الأغلبية في انتخابات قادمة بسبب قاعدته الواسعة ووجود طلب حقيقي على نخبة سياسية تمثله.

وحتى الآن لم ينجح التيار المعتدل داخل الحزب الجمهوري في تمثيل هذه الكتلة، حيث أنه ركز تقليدياً على قضايا مثل تقليل الإنفاق الحكومي وخفض الضرائب على الأغنياء والشركات، وقضايا اجتماعية مثل منع الإجهاض والمثلية، كما قام بتأييد سياسات العولمة والتجارة الحرة. كذلك فإن الحزب الديمقراطي بتركيزه على قضايا حقوق المهاجرين والأقليات والحريات الجنسية والإنجابية ودعمه لسياسات التجارة الحرة والعولمة فشل أيضاً في التعبير عن مظالم ومطالب هذه الشريحة.

ويرى محللون أمريكيون أن المطلوب الآن هو ترشيد وتهذيب أفكار اليمين المتطرف وتهميش التوجهات والحركات الأكثر تطرفاً والتي تتبنى نظريات المؤامرة والعنصرية وتفوق الجنس الأبيض والتحريض على العنف والتركيز على القضايا المركزية التي دفعت قطاعاً كبيراً من الأمريكيين لتأييد هذا التيار وهى القضايا الخاصة بالتجارة الحرة والعولمة والهجرة، وأن مستقبل الحزب الجمهوري يعتمد على ظهور نخبة عقلانية قادرة على تمثيل هذه الأفكار بشكل أكثر رشادة من ترامب وأنصاره، ولكن ذلك يتطلب أن تعمل النخبة السياسية المعتدلة داخل الحزب الجمهوري على تبني وتمثيل مظالم ومطالب هذه الكتلة المهمة في المجتمع الأمريكي. كذلك من المهم، في رؤيتهم، أن يستعيد الحزب الديمقراطي موقعه باعتباره الحزب الممثل للطبقة العاملة الأمريكية ليس فقط من خلال رفع الضرائب وزيادة برامج الحماية الاجتماعية ولكن أيضاً عبر تبني سياسات اقتصادية وطنية تدعم المنتج الأمريكي والعامل الأمريكي وتعمل على تقييد الهجرة.