د. دينا شحاتة

رئيس وحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

شهد اليمين المتطرف في الولايات المتحدة تصاعداً غير مسبوق في ظل إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، الذي كان انتخابه في حد ذاته عام 2016- وهو المرشح القادم من خارج البنية التقليدية للحزب الجمهوري- نتيجة مباشرة لاتساع نفوذ هذا التيار داخل الحزب وأيضاً مُحفِّزاً لتعزيز دوره باستمرار. وتقليدياً كان اليمين الأمريكي يعبر عن تحالف بين رجال الأعمال وجماعات دينية إنجيلية وممثلين عن الولايات الريفية والجنوبية، وكانت أجندته تركز أساساً على قضيتين رئيسيتين هما تحرير الاقتصاد من القيود الحكومية وخفض الضرائب على الأفراد والشركات من ناحية، والحفاظ علىقيم الأسرة ومناهضة الإجهاض من ناحية أخرى. وكان اليمين المتطرف يمثل، تقليدياً، أقلية مهمشة داخل الحزب الجمهوري لها تأثير محدود على سياسات وأداء مرشحي الحزب في الانتخابات.

تياران رئيسيان

يتكون اليمين المتطرف من تيارين رئيسيين متداخلين إلى حد كبير: التيار الأول، تمثله جماعات مثل الكلو كلكس كلان KKK والجماعات النازية الجديدة، ويتبنى أفكاراً قائمة على العنصرية وتفوق الجنس الأبيض، ويهدف إلى تطهير الولايات المتحدة من الأجناس الأخرى. والتيار الثاني، يتبنى أفكاراً ليبرتارية libertarian، وهو أقرب إلى الجماعات الأناركية اليسارية، حيث أنه يرفض دولة الرفاه أو كما يسميها أنصار هذا التيار the nanny state أو الدولة الخادمة. كما يرفض تمدد سلطات الحكومة الفيدرالية ويسعى إلى تعزيز سلطات المقاطعات والولايات في مواجهتها ويؤكد على حق المواطن الأمريكي في حمل السلاح لمناهضة محاولات الحكومة الفيدرالية لتعزيز سلطاتها.

ويشمل هذا التيار عدداً من الحركات المسلحة وغير المسلحة، مثل حركة حزب الشاىTea Party Movement ، والجمعية الوطنية للبنادق National Rifle Association، وحركة المليشيات المسلحة، وحركة الموطنين أصحاب السيادةSovereign Citizens ، وحركة حافظو القسمOath Keepers ، وحركة الثلاثة في المائة 3 Percenters، وانضمت لها في السنوات الأخيرة حركات جديدة مثل حركة كيو انون anonQ، وحركة الفتيان الفخورين Proud Boys. ومن الملفت أن الكثير من هذه الحركات تضم أعضاءاً حاليين وسابقين في الشرطة والجيش الأمريكي، وهناك حركات تتشكل بالكامل من هذه الفئة مثل حركة حافظي القسم والتي تؤكد على ضرورة قيام أعضاء الجيش والشرطة بحماية الدستور الأمريكي في مواجهة محاولات الحكومة الفيدرالية لتوسيع سلطاتها.

وبالرغم من تباين أولوياتهم، إلا أن أعضاء اليمين المتطرف يجمع بينهم عداء مشترك للحكومة الفيدرالية وممثليها، وتنتشر بينهم نظريات مؤامرة حول تواطؤ الأخيرة مع جماعات شيوعية واشتراكية من أجل تأسيس نظام حكم اشتراكي شمولي في الولايات المتحدة، وإقامة نظام عالمي جديد تقوده الأمم المتحدة والليبرالية العالمية. ويتبنى أعضاء هذه الجماعات توجهات عدائية شديدة للعولمة والانفتاح الاقتصادي والمنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة، كما يرفضون انخراط الولايات المتحدة في صراعات مسلحة في الخارج، فضلاً عن أى سياسات اجتماعية مثل التأمين الصحي الشامل والتأمين الاجتماعي والحد الأدنى للأجور، ويرونها جزءاً من مؤامرة لتأسيس نظام اشتراكي شمولي في البلاد، وأخيراً يبدي العديد منهم مواقف عدائية للتيار الجمهوري التقليدي الذي يدعم سياسات العولمة والتعاون الدولي والانخراط العسكري في الخارج ومكافحة التغيير المناخي.

وفي السنوات الأخيرة، أصبح التشكيك في صحةظاهرة التغيير المناخي من القضايا المهمة في خطاب اليمين المتطرف، حيث يدعي أنصار هذا التيار أن نظرية التغيير المناخي ما هى إلا مؤامرة أخرى تسعى من خلالها الحكومة الفيدرالية إلى تعزيز سلطاتها وتقييد حقوق القطاع الخاص والمواطن، وبالفعل نجح هذا التيار في تعطيل العديد من التشريعات التي سعت إلى احتواء التغيير المناخي في الولايات المتحدة.

نفوذ متصاعد

منذ التسعينيات من القرن الماضي، وخاصة منذ انتخاب الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2008، بدأ نفوذ هذا التيار يتصاعد داخل الحزب الجمهوري لعدة أسباب، منها قيام أوباما بتبني العديد من السياسات الطموحة مثل تطبيق التأمين الصحي الشامل واتخاذ العديد من الإجراءات الهادفة إلى حماية البيئة والتحول إلى مصادر الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، هذا بالإضافة إلى كون أوباما أول رئيس أمريكي أسود. كما قامت إدارته بتبني برامج وسياسات لتعزيز الحريات الجنسية والإنجابية وتحقيق المساواة والفرص المتكافئة بين الجنسين وبين المواطنين من أصول عرقية مختلفة.

ونتج عن هذه التطورات تشكل تحالف بين بليونيرات النفط، وفي مقدمتهم الأخوة ديفيد وشارلز كوك من ناحية، وبين التيارات التي تتبنى أفكاراً عنصرية وليبرتارية libertarian مناهضة للحكومة الفيدرالية ودولة الرفاه من ناحية أخرى. وأعطى هذا التحالف دفعة قوية لليمين المتطرف، حيث قام الأخوان كوك وآخرون بضخ مئات الملايين من الدولارات لدعم مرشحي هذه التيارات في الانتخابات النيابية وتمويل منظمات فكرية وسياسية تدعم هذا التيار.

وقد نجحت هذه الجهود في الدفع بعدد كبير من ممثلي هذا التيار إلى مجلسى الشيوخ والنواب، كما أدت إلى انتشار أفكار هذا التيار بشكل واسع في أوساط قواعد الحزب الجمهوري والمنصات الإعلامية اليمينية مما كان له دور مهم في صعود المرشح ترامب إلى الرئاسة عام 2016.

وقد قام ترامب خلال فترة رئاسته باتباع العديد من السياسات التي تبناها اليمين المتطرف، وفي مقدمتها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ وإلغاء معظم السياسات التي تهدف إلى حماية البيئة وتشجيع استخدام مصادر الطاقة النظيفة، كما سعى إلى إضعاف المنظمات والتحالفات الدولية وانتهاج سياسات اقتصادية حمائية، وحاول إلغاء نظام التأمين الصحي الشامل، وقام بإلغاء عدد من البرامج الاجتماعية التي تستهدف الفئات الأفقر في المجتمع الأمريكي.

توجهات مضادة

أدى التصاعد غير المسبوق لليمين المتطرف في السنوات الأخيرة إلى تكتل التيارات الليبرالية واليسارية حول المرشح الديمقراطي جو بايدن بشكل واسع، كما انضم لهم ناخبون يمثلون تيار يمين الوسط داخل الحزب الجمهوري والذي تم تهميشه في السنوات الماضية، مما أسفر عن إسقاط ترامب في الانتخابات الأخيرة. ولكن يظل صعود نفوذ اليمين المتطرف داخل الحزب الجمهوري وداخل المجتمع الأمريكي، مصدر قلق وعدم استقرار في الفترة القادمة، خاصة بعد لجوء أنصار هذا التيار لاستخدام العنف في محاولة لتعطيل عملية انتقال السلطة للحزب الديمقراطي. وقد أكدت العديد من تقديرات الأجهزة الأمنية الأمريكية أن الجماعات اليمينية المسلحة أصبحت أكبر مصدر للعنف والإرهاب في المجتمع الأمريكي.

ويتطلب احتواء هذه الحركات والتيارات إجراء إصلاحات هيكلية مهمة في النظام الانتخابي والسياسي الأمريكي، وفي مقدمتها تبني إجراءات تحد من دور منظمات العمل السياسي Super PACs والأموال السوداء dark money، أى التبرعات مجهولة المصدر في الانتخابات الأمريكية، حيث أصبحت هذه التبرعات تمارس دوراً حاسماً في فرص المرشحين في الفوز بالانتخابات، كما أدت إلى سيطرة رأس المال بشكل متزايد على النظام السياسي الأمريكي، على نحو جعل المواطن الأمريكي يشعر بالاغتراب والغبن تجاه النخبة السياسية.

كما يتطلب احتواء هذه التيارات إعادة تقسيم الدوائر الانتخابية بشكل أكثر عدالة وتوازناً، إذ قام الحزب الجمهوري، بشكل ممنهج على مدى عقود، برسم الدوائر الانتخابية بشكل يعزز من ثقل الناخبين البيض ويقلل من ثقل الفئات الأخرى في ظاهرة عرفت بالـgerrymandering  أو التلاعب الانتخابي، مما أدى إلى انعدام التوازن بين الكتل التصويتية المختلفة لصالح الناخبين البيض من الطبقتين الوسطى والدنيا.

فضلاً عن ذلك، يتطلب احتواء اليمين المتطرف بناء تحالف أو توافق بين ممثلي يسار ويمين الوسط في الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول قضايا مهمة، وفي مقدمتها ضرورة إصلاح النظام الانتخابي. كما يضفي أهمية خاصة على اتباع سياسات اقتصادية مختلفة تؤدي إلى إضعاف التحالف الذي نشأ بين اليمين المتطرف ورجال أعمال يمثلون قطاع النفط الأمريكي. ويستوجب ذلك ضخ استثمارات ضخمة في قطاعات الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر في المناطق الأكثر تضرراً من آثار العولمة. والجدير بالذكر أن تبني هذه الإصلاحات لن يكون سهلاً على الإطلاق وسيتطلب إرادة ومهارة سياسية ضخمة، خاصة وأن الولايات المتحدة تشهد حالياً أزمة اقتصادية غير مسبوقة ويعاني مجتمعها من الانقسام والاستقطاب وتخضع الكثير من مؤسساتها لنفوذ الشركات الكبرى والمصالح الخاصة التي تعارض هذه الإصلاحات.

وترى اتجاهات أمريكية عديدة أن احتواء اليمين المتطرف يتطلب أيضاً قيام تيار اليمين الوسط، أو اليمين التقليدي داخل الحزب الجمهوري، بالانقلاب على اليمين المتطرف واتخاذ موقف رافض تجاه أفكاره العنصرية والمتطرفة وتجاوزاته إزاء المبادئ والثوابت الدستورية والقانونية للنظام السياسي الأمريكي، إذ قام العديد من قيادات الحزب في السنوات الأخيرة، مثل مايك بنس نائب الرئيس السابق وميتش ماكونل زعيم الأغلبية السابق وآخرين، بانتهاج سياسة انتهازية تجاه تصاعد اليمين المتطرف خوفاً من انقلاب قواعد الحزب عليهم وكذلك تجنباً لتراجع قنوات التمويل الانتخابي والتي أصبح يتحكم فيها نخبة من رجال الأعمال الممثلين لقطاعات الوقود الأحفوري والمتحكمين في شبكة واسعة من المنظمات السياسية والإعلامية التي تدعم مصالحهم الرافضة لتقييد أنشطة وأرباح شركات النفط وتبني سياسات داعمة للتحول لمصادر الطاقة البديلة والاقتصاد الأخضر.

وقد دفعت تطورات عديدة في الفترة الأخيرة في اتجاه إظهار الأضرار التي نتجت عن هذه السياسة الانتهازية التي تبناها قيادات الحزب تجاه اليمين المتطرف. فبالإضافة إلى سقوط ترامب وسيطرة الديمقراطيين على مجلسى الشيوخ والنواب في الانتخابات الأخيرة، فقد كان انقلاب ولايات مثل جورجيا وأريزونا على الحزب الجمهوري مؤشراً على تراجع قبضة الحزب حتى في بعض معاقله التقليدية.

كذلك، فإن رفض ترامب وقطاع كبير من أنصاره داخل الكونجرس الأمريكي وخارجه الاعتراف بنتائج الانتخابات رغم انتفاء أى دلائل حقيقية على حدوث تزوير وقيام متظاهرين ممثلين عن حركات اليمين المتطرف باقتحام مبنى البرلمان، أحدث انشقاقاً كبيراً داخل الحزب الجمهوري تجلى في الإدانات الواسعة لأحداث اقتحام الكونجرس وفي قيام عشرة نواب جمهوريين في مجلس الشيوخ بالتصويت لصالح اقتراح بعزل ترامب عن السلطة قبل انتهاء مدة ولايته وتقديمه للمحاكمة.

هذه التطورات في مجملها تهمد الطريق أمام تصاعد تيار يمين الوسط على حساب اليمين المتطرف في الفترة القادمة، وهو ما قد يساهم في بناء توافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول ضرورة إقرار إصلاحات سياسية تحول دون نجاح قوى متطرفة في السيطرة على المؤسسات الديمقراطية الأمريكية وتهديد استقرارها واستمراريتها في المستقبل.