د. محمد عباس ناجي

رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لا يعبر الهجوم الذي وقع في مدينة الأحواز الإيرانية، في 23 سبتمبر 2018، واستهدف العرض العسكري الذي نظمه الحرس الثوري، عن ظاهرة جديدة تشهدها إيران، خاصة أن تلك النوعية من الأحداث تمثل عنوانا رئيسا للتفاعلات التي جرت داخل داخل إيران على مدى العقود الأربعة الماضية. لكن الجديد في الأمر يكمن في مستوى الحدث وتوقيته، فضلا عن الجدل الذي ارتبط بهوية منفذيه. فقد أسفر الهجوم عن مقتل 25 شخصا وإصابة أكثر من 60 آخرين، وكاد أن يطال مسئولين بارزين في الحرس الثوري (الباسدران)، فضلا عن شخصيات أخرى سياسية ودينية كانوا موجودين على المنصة الرئيسية للعرض وقت تنفيذ العملية.

إقليم الأحواز

يقع إقليم الأحواز في جنوب غرب إيران على الخليج العربي بالقرب من جنوب العراق والكويت. وقد سيطرت عليه إيران، بالتوافق مع بريطانيا، بداية من عام 1925، نظرا لموقعه الاستراتيجي، وغناه بالموارد الطبيعية من النفط والغاز والمياه والأراضي الزراعية الخصبة. وتشير تقديرات عديدة إلى أن الموارد التي يمتلكها الإقليم تساهم بنصف الناتج القومي الصافي لإيران، وبحوالي 80% من الصادرات الإيرانية. وتقدر بعض المصادر الأحوازية أن احتياطيات النفط في الإقليم تقدر بنحو 157 مليار برميل، بينما تقدر احتياطيات الغاز بما يقرب من 33.8 تريليون متر مكعب.

ولذلك، حظى الإقليم باهتمام خاص من جانب الحكومات الإيرانية المتعاقبة. لكن هذا الاهتمام لم ينعكس بشكل إيجابي على الأوضاع المعيشية لسكانه، الذين ينتمون إلى القومية العربية. إذ حرصت الحكومات الإيرانية على تبني سياسات تمييزية قامت على استغلال الموارد الطبيعية بالإقليم لصالح أجندات خاصة بها، بالتوازي مع نقل كميات كبيرة من مياهه العذبة إلى المحافظات الأخرى. كما قامت بتغيير اسم الإقليم إلى الأهواز أو خوزستان، وهو ما امتد أيضا إلى أسماء الشوارع والميادين وغيرها، في محاولة لتغيير الهوية القومية العربية للإقليم بالتوازي مع إحداث تحول في التوازن الديمواغرافي من خلال تهجير سكان الإقليم وتوطين الفرس داخله.

وعلى ضوء ذلك، تأسست حركات سياسية عديدة للتعبير عن مطالب الأحوازيين، كان في مقدمتها "حركة النضال العربي لتحرير الأحواز"، و"الجبهة العربية لتحرير الأحواز"، و"حزب التضامن الديمقراطي الأحوازي"، و"المنظمة الوطنية لتحرير الأحواز". كما نشأت بعض الأجنحة العسكرية داخل عدد من هذه المنظمات، مثل "المقاومة الوطنية الأحوازية" و"كتائب محيي الدين آل ناصر".

ومن دون شك، فإن تأثير هذا الحدث داخل إيران يتزايد في ضوء اعتبارات عديدة. أهمها أنه يتزامن مع اتساع نطاق الاحتجاجات الداخلية التي لم تتوقف منذ ديسمبر 2017، بسبب فشل الحكومة في التعامل مع المشكلات المعيشية من ارتفاع مستويات التضخم والبطالة وازدياد نسبة الفقر، إلى جانب انخفاض سعر العملة الوطنية أمام الدولار بمقدار الثلثين، بعد أن وصل الدولار، وفق بعض الفترات، إلى 150 ألف ريال.

 وقد تفاقمت هذه المشكلات بفعل العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية بداية من 7 أغسطس 2018، وستصل إلى مستواها الأقوى في 4 نوفمبر القادم عندما تتضمن الصادرات النفطية التي تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى إيصالها للمستوى صفر رغم العقبات العديدة التي يمكن أن تحول دون تحقيق ذلك. واللافت هنا أيضا أن العقوبات فرضت تأثيراتها على الأرض حتى قبل أن يتم تطبيقها، على نحو يشير إلى مدى هشاشة الاقتصاد الإيراني الذي يعاني من مشكلات هيكلية لا تبدو هينة.

فضلا عن ذلك، فإن تلك العملية تأتي في وقت تتصاعد فيه حدة الاحتقان على المستوى الاجتماعي، بسبب تصاعد استياء القوميات الإيرانية المختلفة من السياسات التي تتبناها الدولة، والتي تفرض تداعيات سلبية على الأوضاع المعيشية في المناطق التي تقطنها هذه القوميات التي تتواجد على الحدود مع الدول الأخرى وتتشابك عرقيا مع بعضها.

وتمثل الأحواز والمناطق التي تقطنها القومية العربية نموذجا بارزا في هذا السياق، فرغم أنها تعد الأغنى على مستوى إيران من حيث توافر الموارد الطبيعية من النفط والغاز والمياه العذبة والزراعة وغيرها، إلا أنها تعاني من مشكلات عديدة، بسبب الإجراءات الحكومية. وحسب بعض التقديرات، فإن الأحواز تضم ما بين 85-90% من احتياطات النفط والغاز في إيران.

وتعد مشكلة نهر كارون (الذي يوفر 35% من المياه في إيران)، وينبع من الأحواز انعكاسا لتلك الإجراءات، حيث حرصت الحكومات الإيرانية المتعاقبة على تحويل مجرى النهر ونقل مياهه عبر أنابيب إلى محافظات أخرى مثل أصفهان وقم ويزد، على نحو ساهم في تصاعد ظاهرة الجفاف وهجرة عدد كبير من مواطني الأحواز إلى مناطق أخرى.

وقد ساهم ذلك في تنظيم تجمعات احتجاجية عديدة خلال الفترة الماضية، بلغت في عام 2017 وحده نحو 397 تجمعا، وفقا لتقديرات مختلفة، ووصلت إلى ذروتها مع اندلاع الاحتجاجات الواسعة التي انطلقت من محافظة مشهد، في ديسمبر 2017، وانتقلت إلى أكثر من 120 محافظة ومدينة إيرانية منها الأحواز وطهران وأصفهان وغيرها.

 ولا ينفصل ذلك عن محاولات متكررة من جانب الحكومات الإيرانية لتغيير التركيبة السكانية للمنطقة بهدف تحويل العرب إلى أقلية عبر آليات أخرى مثل طمس معالم الهوية العربية للمنطقة، وتغيير الأسماء العربية للشوارع والميادين وغيرها، فضلا عن الإصرار على توظيف أبناء المنطقة في محافظات بعيدة ومتفرقة مقابل "تفريس" الوظائف العامة والجهاز الإداري في تلك المناطق.

وعلى غرار المناطق الأخرى التي تقطنها قوميات غير فارسية، تأسست أجنحة مسلحة لبعض الحركات السياسية المطالبة بتوسيع هامش الحريات والحصول على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي يكفلها الدستور، مثل "كتائب الشهيد محيي الدين آل ناصر"، والجناح العسكري لحركة "النضال العربي لتحرير الأحواز". وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن المجموعة الأخيرة هى المسئولة عن تنفيذ الهجوم الأخير، إلا أن ذلك لم يكتسب مصداقية في ضوء اعتبارين رئيسيين: أولهما، حرص الحركة عبر موقعها الإليكتروني على نفي مسئولية جناحها العسكري عن تنفيذ الحادث، حيث اعتبرت أن تلك التقارير تعكس آراء وتتضمن تصريحات لما وصفتها بأنها "جهات مطرودة منها ولا تمت بصلة لها". وهو ما لا ينفصل عن إشارة بعض نشطاء الأحواز إلى مسئولية ما يسمى بـ"المقاومة الوطنية" عنه، والتي تعد الحركة جزءا منها حسب رؤيتهم.

وثانيهما،انخراط تنظيم "داعش" في الجدل الذي ثار عقب تنفيذ الهجوم حول هوية الجهة المنفذة، على نحو ما عكسه نشر وكالة "أعماق" التابعة للتنظيم فيديو يعلن فيه مسئوليته عن تنفيذ الحادث. وتجدر الإشارة هنا إلى أن "داعش" كان قد أعلن مسئوليته عن تنفيذ عمليات أخرى سابقة داخل إيران، حيث سبق له أن استهدف ضريح الخميني والمبنى الإداري التابع لمجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) في 7 يونيو 2017.

رغم ردود الفعل السريعة التي أبداها المسئولون الإيرانيون بعد وقوع الحادث، وربطوا فيها بينه وبين ما يعتبرونه "مخططا خارجيا" لتقويض دعائم النظام، تقوده قوى دولية وإقليمية عديدة، إلا أن السلطات الإيرانية لم تشر إلى هوية الجهة المنفذة حتى الآن حتى بعد إعلانها اعتقال 22 شخصا قالت إنهم متورطون فيه، على نحو دفع بعض الاتجاهات إلى المطالبة بالتمهل في دراسة أسباب وتداعيات الحادث وتحديد هوية منفذيه.

ويبدو أن هذا الارتباك، وربما التناقض، الذي تتسم به ردود الفعل الإيرانية يمثل انعكاسا مباشرا للضغوط المتصاعدة التي تتعرض لها إيران في الوقت الحالي، والتي لم تعد تنحصر فقط في العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أهميتها وتأثيرها الذي لا يمكن تجاهله، وإنما باتت تمتد أيضا إلى الداخل الإيراني، بعد أن اتسعت رقعة الاحتجاجات المطالبة بوقف الدعم الإيراني للتنظيمات المسلحة الموجودة في المنطقة لصالح منح الأولوية لمعالجة الأوضاع المعيشية المتردية في الداخل التي ستتفاقم بشكل أكبر خلال المرحلة القادمة مع تراجع عوائد الصادرات النفطية على خلفية العقوبات الأمريكية الجديدة.

 وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن هجوم "المنصة" لم يكن الأول من نوعه، وربما لن يكون الأخير، في إطار المواجهات المستمرة التي تندلع بين الحين والآخر بين القوات الإيرانية بشقيها -الحرس الثوري والجيش النظامي- وبين المجموعات المسلحة التي تتواجد في المناطق التي تقطنها بعض القوميات الإيرانية المختلفة، والتي تحولت إلى بؤر اضطرابات مرشحة للتصاعد خلال المرحلة القادمة، خاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية بفعل العقوبات الأمريكية.