لا تزال معضلة تشكيل الحكومة العراقية بناء على نتائج الانتخابات البرلمانية التي أجريت في الثاني عشر من مايو 2018، أسيرة المفاوضات المستمرة بين الكتل والقوى السياسية وتجاذباتها بشأن تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، التي ستتولى عملية تشكيل الحكومة الجديدة. وتعد خطوة تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر –الجارية حتى كتابة هذه السطور- أهم المعضلات التي تواجه البرلمان الجديد. وتختلف التحالفات الانتخابية في العراق اختلافا كليا عن التحالفات البرلمانية التي تتم داخل مجلس النواب؛ حيث تتزايد الاندماجات غير المتوقعة لتشكيل الكتلة الأكبر، كما تتزايد أهمية الكتل السياسية الصغيرة في ترجيح كفة تحالفات بعينها على أخرى في هذه العملية مقابل حصة لها في الحكومة الجديدة. هذا كله وسط أجواء من التنافس الدولي والإقليمي على مستقبل العملية السياسية في العراق، وتحديدا بين الولايات المتحدة وإيران، اللتان تحاولان الحفاظ على نفوذهما داخل العراق عبر دعم وكلائهما من القوى السياسية؛ لاسيما في سباق تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، ومن ثم تشكيل الحكومة العراقية، الأمر الذي يزيد من تأزم الوضع السياسي العراقي الذي بات رهنا لتداعيات حالة الصراع الأمريكي- الإيراني في المنطقة.
الأبعاد الداخلية
معضلة تكوين الكتلة البرلمانية "الأكبر" جاءت باعتبارها مترتبة على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث لم تحصل أي من التحالفات الانتخابية التي خاضت الانتخابات على الأغلبية التي تمكنها من تشكيل تلك هذه الكتلة، والمحددة بـ 165 مقعدا برلمانيا من إجمالي 329 مقعدا (نصف عدد المقاعد البرلمانية +1)، والتي سيكون بمقدورها ترشيح رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة.·
فور إعلان المحكمة الاتحادية العليا في التاسع عشر من أغسطس 2018 مصادقتها النهائية على نتائج الانتخابات -بعد تأخير ثلاثة أشهر- بدأت إجراءات ومراحل تشكيل الحكومة الجديدة؛ حيث انعقدت الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي الجديد –برئاسة أكبر الأعضاء سنا- في الثالث من سبتمبر 2018، ولم تنجح في تسمية رئيس البرلمان الجديد ونائبيه، وتم تأجيل هذه الخطوة حتى موعد انعقاد جلسة الخامس عشر من الشهر نفسه، حيث تم اختيار رئيس للمجلس (من التيار السني) واختيار نائبه الأول (من التيار الشيعي) بأغلبية الثلثين، ثم اختيار النائب الثاني (من التيار الكردي) في جلسة اليوم التالي. ووفقا للدستور العراقي، يلي هذه الخطوة انتخاب النواب لرئيس الجمهورية (من الأكراد) بغالبية ثلثي الأعضاء، حيث يقوم رئيس الجمهورية بعدها بتكليف مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة، وذلك خلال 30 يوما على أن يتم عرضها على البرلمان لإقرارها. وحتى كتابة هذه السطور لم يُحسم الجدل حول شخصية رئيس الجمهورية بسبب انقسام الأحزاب الكردية وعدم قدرتهم على الوصول إلى توافق حول شخص محدد.
في هذا السياق، بدأ حراك كبير بين، وداخل، كافة القوى السياسية، وكان النصيب الأكبر من هذا الحراك داخل الكتلة الشيعية؛ حيث انقسم الشيعة إلى تيارين: الأول، يجمع بين "تحالف الفتح" لهادي العمري، وائتلاف "دولة القانون" لنوري المالكي، ومعهما عدد من الأحزاب السنية، وبعض القوى الكردية. هذا التيار يُعد هو الأكثر ارتباطا بإيران وسياستها داخل العراق. التيار الثاني، يجمع بين ائتلاف "سائرون" لمقتدى الصدر، وائتلاف "النصر" لحيدر العبادي، ومعهما تيار "الحكمة الوطني" لعمار الحكيم، وقائمة "الوطنية" لإياد علاوي، وهو التيار الذي يطالب بسياسات عراقية أكثر استقلالا عن إيران، وتفاعل أكبر مع المحيط العربي، فضلا عن مناداته بضرورة صياغة سياسات عابرة للطائفية التي كرسها نظام المحاصصة الطائفية الناتج عن دستور 2005، والذي تم صياغته في ظل الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
حتى الآن (25 سبتمبر 2018) لازالت عملية التفاوض بين القوى السياسية على تشكيل الكتلة البرلمانية المطلوية جارية، حيث تبلور تحالفان برلمانيان، دون أن يُعلن أي منهما نجاحه في تشكيل الكتلة الأكبر. الأول، يجمع الكتل السياسية الشيعية ذات المرجعية الدينية المتشددة، والتي تدين بالولاء لإيران وسياستها في العراق. ويمثل ذلك المسار "ائتلاف البناء"، الذي بات يضم تحالف "الفتح" لهادي العمري (الحشد الشعبي)، وائتلاف "دولة القانون" لنوري المالكي، وعدد من قيادات تحالف المحور الوطني السني (يضم 6 كتل سنية بإجمالي 54 مقعدا). ويضم هذا المسار حوالي 145 نائبا ( إحصاء أولي حتى 19 سبتمبر 2018).
التحالف الثاني هو تحالف "الإصلاح والإعمار"،ويضم تحالف "سائرون" (تيار مقتدى الصدر والحزب الشيوعي)، وتحالف "النصر" لحيدر العبادي، وائتلاف "الوطنية" لإياد علاوي، وتيار "الحكمة الوطني" لعمار الحكيم، وعدد من نواب الأقليات المسيحية والإيزيدية والصابئة، وبعض القوى السنية المحسوبة على تحالف القوى الوطنية السنية. ويضم هذا التحالف من 100 إلى 177 نائبا (إحصاء أولي حتى يوم 19 سبتمبر 2018). وتؤكد القوى السياسية المنضوية ضمن هذا التحالف على ضرورة اتباع سياسة عراقية مستقلة وبعيدة عن تأثيرات المصالح الإيرانية في المنطقة، كما ينادي بإلغاء العمل بنظام المحاصصة السياسية وما ترتب عليها من طائفية، ويطالب بأن تكون الحكومة المقبلة حكومة تكنوقراط وليست حكومة محاصصة حزبية، بل ويسعى أن يتولي الحكومة سياسي شيعي مستقل غير محسوب على القوى الحزبية القائمة، وهو ما يرفضه تيار البناء رفضا مطلقا.
وبالرغم من تشرذم المكون السياسي السني وانقسام توجهاته بشأن التحالفات البرلمانية، لاسيما مشاركة قائمة "القرار العراقي" في تحالف البناء (العمري – المالكي)، نجد المكون الكردي، وتحديدا الحزب الديمقراطي (25 مقعدا)، وحزب الاتحاد (18 مقعدا)، لم يحسما موقفيهما بشأن الانضمام لأي من المسارين المذكورين، حيث يسيطران معا على 43 مقعدا برلمانيا، مما يجعل الحزبين رقما مهما في عملية ترجيح أيا من التحالفين المذكورين بشأن تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر.
البعد الخارجي
بالرغم من تعقيدات المشهد السياسي العراقي الداخلي خلال المرحلة الراهنة، وتحديدا بعد نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة وإشكاليات تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، إلا أن ثمة أسباب أخرى تمثل العائق الرئيس أمام حلحلة الأزمة البرلمانية الراهنة، وهي أسباب تتعلق بارتهان القرار السياسي العراقي لحالة تجاذب وتصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة، نتيجة لارتباطات القوى السياسية الشيعية لاسيما ذات المرجعية الدينية المتشددة، بنظام ولاية الفقيه في إيران، وارتباط البعض الآخر منها – التيارات المعتدلة – بالولايات المتحدة والجوار العربي. كما أن حالة التوافق الضمني بين الجانبين الإيراني والأمريكي، والذي جاء بحكومة حيدر العبادي (التيار المعتدل في حزب الدعوة الإسلامي) منذ عام 2014، قد انتفت أسباب تواجدها في ظل عاملين: الأول، تمثله التطورات والأزمات التي حلت بالمنطقة والعراق تحديدا منذ انتشار تنظيم الدولة "داعش" في المشرق العربي. أما الثانى، فيمثله إبرام الاتفاق النووي الإيراني بين إيران ومجموعة دول (5 + 1) في مايو 2015، والذي منح إيران حرية العمل في كافة ملفات التشابك الإقليمية في المنطقة، وأسفر عن تزايد نفوذ مشروعها الإقليمي بقوة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، الأمر الذي رفضته إدارة ترامب بعد وصولها إلى البيت الأبيض في يناير 2017، والتي أعلنت الانسحاب من جانب واحد من الاتفاق نفسه في مايو 2018؛ كتعبير عن بدء مرحلة جديدة من الصراع والتنافس الأمريكي الإيراني في المنطقة مثل العراق -ولا يزال حلقته الأساسية- باعتباره مرتكز النفوذ الإيراني في المشرق العربي من ناحية، وبوابة الولوج العسكري الأمريكي للمنطقة نفسها من ناحية ثانية.
وقد ألقت حالة التشابك الدولي والإقليمي بين الولايات المتحدة وإيران في العراق خلال العاميين الماضيين بتداعياتها على مسار العملية السياسية، وعلى العلاقة بين القوى السياسية الثلاثة المتمايزة الشيعة والسنة والأكراد، بل وألقت بتأثيراتها الواضحة على حالة التماسك داخل البيت السياسي الشيعي نفسه. فبدأنا نشهد حالة صراع شيعي – شيعي داخل ما كان يسمى بـ"التحالف الشيعي الحاكم"، أخذ أبعادا مختلفة، بعضها انعكس في صراع المشاريع السياسية بين مشروع الأغلبية السياسية الذي تزعمته الأحزاب الشيعية المتشددة، وعلى رأسها حزب الدعوة المكون الرئيس لائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، وبين المشروع الوطني القائم على رفض المحاصصة الطائفية والحزبية، والداعي لهوية وطنية جامعة لكافة الطوائف السياسية العراقية شريطة أن تكون عابرة للطائفية، وهو المشروع الذي يتزعمه التيار الصدري وتيار الحكمة الوطني لعمار الحكيم وتيار القائمة الوطنية لإياد علاوي. هذه المكونات الشيعية السياسية كانت هي نفسها المكونة للتحالف الشيعي الحاكم الذي ظل قابضا على السلطة حتى إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مايو 2018.
بهذا الانقسام الواضح في التحالف الشيعي الحاكم إلى كتلتين متصارعتين، أصبح هناك تمايزا واضحا بين تيارات شيعية متشددة ترغب في استمرار ارتهان القرار السياسي العراقي للمصالح الإيرانية، وتيارات شيعية أخرى أقل ارتباطا بإيران وأكثر رغبة في الانفتاح على الولايات المتحدة ودول الجوار العربي. وقد انعكس ذلك التفاعل في حالة الصراع الآنية على تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، حيث تمارس إيران نفوذها في العراق بشراسة من أجل ضمان أن تكون هذه الكتلة لصالح التيارات الموالية لها، بينما تعمل الولايات المتحدة عبر اتصالات مبعوثها للعراق (بريت ماكجورك)، في إطار ضمان تشكيل حكومة أقل تشددا وأكثر استقلالا عن إيران. وهي في ذلك لاتزال تدعم حليفها القديم رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي –زعيم ائتلاف النصر– أحد مكونات تحالف الإصلاح والإعمار البرلماني، والذي تبدو فرص إعادة تسميته رئيسا للوزراء في ظل تجاذبات القوى السياسية الحالية صعبة إلى حدٍ كبير.
هذا السجال بين الولايات المتحدة وإيران في العراق ساهم في تأخير اختيار الكتلة البرلمانية الأكبر حتى تاريخ كتابة هذه السطور. مع ملاحظة أنه وبالرغم من كافة أشكال الضغط الاقتصادي الذي تمارسه الإدارة الأمريكية على إيران منذ انسحابها من الاتفاق النووي، وفرضها العديد من العقوبات الاقتصادية عليها بهدف تقويض وتحجيم نفوذها في العراق وسوريا، إلا أن مسار الحراك السياسي في العراق يبدو أنه يسير في اتجاه ما تخطط له إيران. وكانت أولى مؤشرات ذلك ما تم بشأن اختيار البرلمان الجديد لرئيسه ونائبيه؛ فقد مثل اختيار محمد الحلبوسي – من التيار السني المتماهي مع صقور الشيعة الموالين لإيران - انتصارا لتحالف البناء البرلماني الشيعي الذي يمثله هادي العمري (الحشد الشعبي) ونوري المالكي (ائتلاف دولة القانون). وقد حصل الحلبوسي على أغلب أصوات النواب أمام منافسه من التيار السني نفسه خالد العبيدي وزير الدفاع السابق، والمدعوم من تحالف الإصلاح والإعمار لمقتدى الصدر.
اختيار رئيس للبرلمان محسوب على تيارات مرتبطة بإيران ربما يترجم احتمالات أن يتم تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر على غير رغبة الولايات المتحدة، وهذا يعني أن سياسات الضغط الأمريكي على إيران لم تؤت بثمارها، وأن النفوذ الإيراني في العراق مازال يتجاوز بمراحل النفوذ الأمريكي، بل أصبح نفوذا له أبعاده السياسية والأمنية والاجتماعية والدينية، الأمر الذي رسخ من قوة المشروع الإيراني في العراق طوال السنوات الماضية. ويعني أيضا أن النفوذ الأمريكي على بعض حلفائها في الداخل العراقي - السنة والأكراد وهي الكتل القادرة على ترجيح أيا من الطرفين المتصارعين على تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر - باتت محل تشكيك لاسيما حلفائها الأكراد، ويرجع ذلك لحالة التردد الأمريكية المعهودة في التعامل مع قضايا المكون الكردي عامة، والعراقي بصفة خاصة (الموقف الأمريكي من استفتاء كردستان العراق مثالا) بما يشير إلى ضعف التأثير الأمريكي، مقابل قوة التأثير الإيراني على مجمل العملية السياسية في العراق.
مما سبق يتضح أن العملية السياسية المعطلة في العراق على وقع نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وما نتج عنها من إشكاليات تتعلق بتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر ومن ثم تشكيل الحكومة، باتت مرشحة لمزيد من التأزم على مستوى التفاعل الداخلي بين القوى السياسية المختلفة، بل بين المكون السياسي الواحد من ناحية، وعلى مستوى التفاعل الدولي والإقليمي، من ناحية ثانية. ويتزايد تأثير العامل الخارجي تحديدا على وقع التنافس الأمريكي- الإيراني على تشكيل الكتلة الأكبر من بين حلفاء كل طرف، لاسيما مع تصاعد وطأة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران مؤخرا، ما دفع الأخيرة إلى التمسك بالساحة العراقية باعتبارها منفذا لها تستطيع عبرها تجاوز تداعيات العقوبات الاقتصادية. وهذا يعني في مجمله أن تشكيل الحكومة العراقية الجديدة في ظل كافة المعطيات السابقة سيظل مؤجلا إلى أن يتوافر قدر من التوافق بين الولايات المتحدة وإيران على من سيشغل منصب رئاسة الوزراء، أو أن تنجح طهران مجددا في فرض رؤيتها السياسية في العراق منفردة.
· أبرز نتائج التحالفات الانتخابية: تحالف "سائرون" الذي تزعمه مقتدى الصدر والحزب الشيوعي العراقي (54 مقعدا)، تحالف "الفتح" الذي يضم فصائل الحشد الشعبي (47 مقعدا)، وتحالف النصر بزعامة رئيس الوزراء حيدر العبادي (42 مقعدا). ائتلاف دولة القانون بزعامة نائب رئيس الوزراء نوري المالكي (25 مقعدا)، ائتلاف الوطنية لإياد علاوي (21 مقعدا). تيار الحكمة الوطني لعمار الحكيم (19 مقعدا)، قائمة القرار العراقي (14 مقعدا)، وحزب الاتحاد الكردستاني (18 مقعدا). والحزب الديمقراطي الكردستاني (25 مقعدا).