شهدت العلاقات المصرية- السودانية خلال الفترة الأخيرة نقلة نوعية ترشحها لتحقيق درجة كبيرة من الاستقرار على المستوى المنظور، وذلك رغم التحديات الداخلية السودانية التي ربما تشكل تهديدا لهذا الاستقرار المأمول. ونطرح هنا ثلاثة مؤشرات ترجح دخول العلاقات المصرية- السودانية مرحلة من التطور والاستقرار خلال السنوات القادمة.
المؤشر الأول، هو الاجتماع المنفرد بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والفريق أول بكري حسن صالح، نائب رئيس الجمهورية، وهو ما يعني امتداد هذا التحسن إلى مرحلة ما بعد الرئيس البشير، في ضوء احتمالات تولي صالح مهام الرئاسة السودانية خلال العام 2020، وذلك طبقا لتفاهمات إقليمية، لها امتدادات دولية، تهدف إلى ضمان انتقال سلسل وسلمي للسلطة، وضمان خروج آمن للرئيس البشير يمنع محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتي تعاني من رفض أفريقي عام، استنادا إلى تقدير أن الملاحقين من قبل المحكمة هم النخب السياسية الأفريقية بالأساس .
هذه الصيغة بالتأكيد تلقي مقاومة من جانب نخبة "الجبهة القومية الإسلامية"، التي تتحكم في مفاصل الدولة على الرغم من فشلها تحقيق استقرار سياسي للسودان، وضلوعها في فساد مالي وإداري حفلت ببعضه المحاكم السودانية، وأسهب في تفاصيله رموز من ذات الفصيل الإسلامي في مؤلفات أسفرت عن احتقان سياسي غير مسبوق أفقد الإسلاميين السودانيين أي مصداقية سياسية أو دينية. ما أسهم في النهاية في رفع حالة الاحتقان السياسي الذي تسبب فيه أيضا تدهور الأوضاع الاقتصادية.
المؤشر الثاني، يرتبط بمسألة الربط الكهربي بين البلدين، وهو أمر يخفف من التأثير الإثيوبي على الموقف السوداني في مسألة سد النهضة، وهو الذي يعول على الحصول على مصادر طاقة إضافية من السد، لتلبية الاحتياجات المحلية وخفض مستوى التوتر السياسي الناتج عن ذلك، حيث من المتوقع في هذا السياق أن يتم بلورة اتفاق ثلاثي مصري- سوداني- إثيوبي فيما يخص حجم التخزين بسد النهضة والفترة الزمنية للتخزين.
المؤشر الثالث، هو اللقاء الذي جمع الرئيس عبد الفتاح السيسي بنخبة من المثقفين والإعلاميين السودانيين في حوار هو الأول من نوعه ربما بين رئيس مصري والنخب الثقافية والإعلامية السودانية، وهو ما يعني في تقديري تفاعل رسمي مصري على أعلى مستوى مع أصوات سودانية مهمة، ما يتيح بدوره فهما مصريا أكثر حساسية تجاه الهموم السودانية، وفرصة لتصحيح بعض الصور المتبادلة المغلوطة.
في السياق الإقليمي، نحن أمام تحولات أساسية فرضت ترتيب أوراق دولتي وادي النيل للحفاظ علي فاعليتهما ووزنهما المشترك أو المنفرد في المنطقة، وذلك إزاء نتائج المصالحة الإثيوبية- الإريتيرية، والتي وإن جاءت بترتيبات تأخذ بعين الاعتبار المصالح المصرية والسودانية منفردتين ومجتمعتين، إلا أنها قد تسفر عن وزن إضافي لإثيوبيا يترتب عليه وصولها مجددا إلى سواحل البحر الأحمر، ليس فقط بانعكاس ذلك على الاقتصاد الإثيوبي إيجابيا، ولكن بتداعيات امتلاك إثيوبيا لقدرات بحرية أعلنت عن التخطيط لامتلاكها، وذلك على لسان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وهو الذي وعد أيضا بفرص عادلة لكل الأحزاب الإثيوبية في مفاصل الدولة، وكلها عوامل تساهم إجمالا في زيادة وفعالية الدولة الإثيوبية وتمتعها بدعم دولي إضافي. ذلك أن إقرار الممارسة الديمقراطية في إثيوبيا كمنهج ثابت سيكبح عوامل تفككها، وهو الأمر الذي يقاومه الغرب وإسرائيل بسبب طبيعة الأدوار التي تقوم بها إثيوبيا تاريخيا لدعم المصالح الغربية.
وبطبيعة الحال، تهدف الرافعة الخليجية للمصالحة الإثيوبية- الإريترية، إلى تقليص الوجود الإيراني والوجود التركي معا في البحر الأحمر، وهو الوجود الذي يشكل مهددا استراتيجيا للأمن الخليجي بشكل عام، كما يقلص من فرص موانئ دبي في التوسع في القرن الأفريقي خصوصا، والسواحل الأخرى عموما، في ظل المنافسة التركية على وجه التحديد. بينما أسفر الوجود الإيراني في البحر الأحمر على مدى عقدين عن رفع مصادر التهديد بشكل مباشر للمملكة العربية السعودية. ولعل الحالة الراهنة في اليمن هي دليل على مدى اتساع حجم التهديدات.
ولعل الهدف الخليجي في تحجيم الوجود الإيراني يتماهى مع الخطط الدولية، خصوصا الأمريكية، في تقليص حجم النفوذ الإقليمي الإيراني في الملفين السوري واليمني، انطلاقا من المخاوف المرتبطة بالقدرات النووية الإيرانية، وأيضا تهديد التجارة العالمية في البحر الأحمر عموما وتجارة البترول الخليجي خصوصا.
وعلى صعيد التهديدات الأمنية تلتقي مصالح منظومة إقليمية متكاملة من دول الخليج، وشرق إفريقيا، فضلا عن مصر والسودان، في تحجيم فرص انتقال الدواعش من سوريا والعراق إلى منطقتي القرن والساحل الأفريقي. وعلى نحو تفصيلي نستطيع القول إن التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الأفريقي، والتي تعد كل من ليبيا ونيجيريا ومالي مراكز أساسية لها، هي تهديد مشترك للمصالح المصرية- السودانية المشتركة ومؤثرة على الأمن القومي المصري، خصوصا في ضوء فشل مراهنات بعض القوى على تحول ليبيا إلى بؤرة استنزاف لمصر.
وعلى الرغم من هذه المؤشرات والتطورات الإيجابية المهمة على صعيد تطور العلاقات المصرية- السودانية، إلا أن هذه التطورات يكتنفها تحديات أساسية تنبثق عن المعادلة السياسية السودانية الداخلية، إذا أن بعض النخب الإسلامية داخل مفاصل الدولة السودانية تقاوم حاليا توجهات البشير وبكري وتفاهماتهما الإقليمية، خصوصا مع مصر، وتحاول في هذا السياق التلاعب عبر الجهاز المصرفي والتأثير على سعر العملة في محاولة لدفع الناس للخروج إلى الشارع، خصوصا أن البعض من هؤلاء يملكون تسليحا لا بأس به.
التحدي الثاني يتعلق بالقوات غير النظامية المسلحة والتي يقودها زعماء قبائل من دارفور، مثل "قوات حميدتي". هؤلاء لهم بعض "الأفضال" على النظام السوداني في أحداث مايو 2008، وذلك عندما نجحوا في وقف القوات الدارفورية المتمردة على السلطة المركزية عند مشارف الخرطوم، فضلا عن أدوار أخرى في جنوب غرب كردفان. وبطبيعة الحال، سوف تقاوم هذه القوات أي أدوار مستقبلية للجيش القومي السوداني صاحب العقيدة القتالية الواضحة.
وتتطلب هذه التحديات الاستعانة بالخبرات المصرية التي نجحت في تقليص تأثير تنظيم الإخوان المسلمين على الاقتصاد المصري، وخصوصا الجهاز المصرفي، وذلك في أعقاب ثورة 2013. وكذلك إيجاد صيغ من التفاهمات مع القوات السودانية غير النظامية تجنب السودان مواجهات مسلحة، وكلا الإجراءين سوف يتطلب ضخ أموال خليجية لضمان هذا النوع من التحديات.
أما على الصعيد الاقتصادي، فمن المتوقع مراجعة قرار وقف الواردات السودانية من مصر، وكذلك دعم عمليات التبادل التجاري، وتوسيع حجم المعاملات الاقتصادية.ومع إشارة الرئيس البشير إلى دعم النقل عن طريق السكك الحديدية وتطوير هذا القطاع، ربما يكون من المتوقع ضلوع مصر في دعم البنية التحتية السودانية في أكثر من مجال. لكن تبقى هناك عقبة التمويل، وهو أمر يمكن معالجته من خلال التمويل الصيني في إطار مخطط الحزام والطريق والتي رصدت له الصين 100 مليار دولار، خصوصا أن هناك تقاربا بين الصين ودولة الخليج في هذه المرحلة، ما يتطلب بلورة مبادرات مشتركة في كافة المجالات التنموية من جانب دولتي وادي النيل ونخبهما السياسية والاقتصادية.