قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات عربية وإقليمية 2018-5-31
د. زياد عقل

خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

عُقد يوم الثلاثاء الماضي 29 مايو 2018 اجتماع بشأن الملف الليبي في باريس بقيادة سياسية فرنسية، شارك فيه كل من خليفة حفتر، القائد الأعلى للجيش الوطني الليبي، وعقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، وخالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة، وأحد أعضاء حزب العدالة والبناء، وهو الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، بالإضافة إلى فائز السراج، رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق.

جاء البيان الختامي لمؤتمر باريس بثماني نقاط، استهدفت حلحلة الوضع السياسي في ليبيا. وقد أشار الرئيس الفرنسي إلى إجماع الأطراف الليبية الحاضرة على هذه النقاط. ولعل أبرز هذه النقاط هو الإعلان عن الانتهاء من الاستفتاء على الدستور أو إقرار القوانين الانتخابية قبل منتصف سبتمبر 2018، وإقامة انتخابات في النصف الأول من ديسمبر من العام نفسه. وقبل أن نُعيد تكرار سيناريو اتفاق الصخيرات الذي تم توقيعه في المغرب عام 2015، وظن البعض وقتها أن الأطراف الليبية توصلت إلى حل سياسي يضع حدا للنزاع، وهو ما اتضح أنه كان تصورًا خاطئًا وحلا غير واقعي وغير قابل للتفعيل، وقبل أن نذهب لكون مؤتمر باريس بمثابة إعلان عن إطار للتسوية السياسية في ليبيا، هناك عدد من الملاحظات المهمة، حول هذا المؤتمر، وعدد آخر من التساؤلات التي تحتاج للإجابة عليها قبل الفصل بمدى فاعلية هذا المؤتمر. 

الملاحظة الأولى، أنه لم يتم توقيع أية اتفاقات خلال مؤتمر باريس، وبيان المؤتمر الذي جاء بنقاطه الثمان لا يتعدى حتى هذه اللحظة حيز المقترحات الطموحة، وليس إطارا شرعيا للتسوية السياسية يشهد إجماعًا من قبل الأطراف المتصارعة. ما حدث في اجتماع باريس هو توافق أولي بين الوفود المشاركة على النقاط التي سوف يعودون بها إلى ليبيا لمناقشتها ومحاولة صناعة توافق حولها بين الكيانات والنخب السياسية التي يمثلها كل طرف. وكون أن قيادات هذه الكيانات أبدت موافقتها المبدئية على ما جاء في البيان الختامي من نقاط، فذلك لا يعني أي تفعيل لتلك البنود، نظرًا لصعوبة صناعة التوافق في الداخل الليبي، وهو ذات النمط الذي تكرر عند توقيع اتفاق الصخيرات.

الملاحظة الثانية، تتعلق بكم الانخراط غير المسبوق لفرنسا في الملف الليبي، فمما لا شك فيه لم تكن فرنسا بعيدة عن الأزمة الليبية منذ يومها الأول، لكنها لم تكن الطرف الأكثر فاعلية إقليميًا أو دوليًا. الضغوط الكثيرة التي مارستها فرنسا على الأطراف الليبية، وبشكل فردي خارج إطار الاتحاد الأوروبي، لها علاقة بلمفين تراهم فرنسا الأكثر خطورة على مصالحها في المنطقة في الفترة الحالية. الملف الأول، هو ملف الهجرة غير الشرعية، والثاني هو ملف الجنوب الليبي. ويرتبط الملفان ببعضهما البعض، حيث إن جنوب ليبيا يُعد مدخلًا للهجرة غير الشرعية من أفريقيا لدول المتوسط من ناحية، ويُعد عدم الاستقرار السياسي، والفراغ الأمني والعسكرية، والمواجهات العسكرية الأخيرة بين قبائل الجنوب الليبي، تهديدًا مباشرًا للمصالح الفرنسية في أفريقيا.

لكن الجدير بالذكر أن نمط التحرك الفردي عانت منه ليبيا منذ بدء الأزمة، ولم ينتج عنه انفراجة سياسية أو حالة من الحلحلة، بل زاد من الانقسام نظرًا لتعارض مصالح الأطراف الخارجية التي تعمل بشكل فردي مع بعضها البعض، وانعكاس ذلك على تفاصيل الصراع في الداخل الليبي. وقد أثبتت التجربة أن التنسيق بين الفاعلين الإقليميين يأتي بنتائج أكثر نجاحًا، خاصة فيما يتعلق بالتفاوض وإزالة الخلافات بين الأطراف في ليبيا. وكان التنسيق المصري- الجزائري هو خير دليل على ذلك. وبدأت فرنسا بالفعل في التعرض لانتقادات شديدة، خاصة من جانب إيطاليا التي تعتبر ليبيا أحد مجالات مصالحها الاستراتيجية، واتجهت أغلب هذه الانتقادات لكون تحرك فرنسا الفردي يقضي على محاولات التوصل لسياسة إقليمية مشتركة حول الوضع في ليبيا، كما يضعف من محاولات إعادة إحياء دور الاتحاد الأوروبي في منطقة المتوسط من خلال التوصل لاستراتيجية تراعي مصالح الدول الأعضاء. وقد نجح الرئيس الفرنسي بالفعل في إقناع الأطراف الأربعة بالجلوس على طاولة واحدة وإصدار بيان النقاط الثمانية، لكن سيكون من الصعب جدا صناعة توافق بين الفرقاء الليبيين حول هذه البنود وتفعيلها دون أن تكون القوى الإقليمية جزءًا من الحل السياسي وعملية الضغط على الأطراف المتصارعة، وعلى رأس هذه القوى إيطاليا.

من ناحية أخرى، هناك عدد من التساؤلات التي يجب طرحها بعد اجتماع باريس وبيانه الختامي. أولها، وأهمها، هو التساؤل حول إمكانية إجراء عملية سياسية في ليبيا في التوقيتات التي جاءت في البيان، 16 سبتمبر للاستفتاء على الدستور، 10 ديسمبر لإجراء الانتخابات. من الناحية النظرية قد تبدو هذه المسألة ممكنة، خاصة في ظل الدعم الدولي لفكرة التسوية السياسية للصراع الليبي، لكن من الناحية العملية هناك بعض العوامل التي تشير إلى صعوبة إقامة عملية سياسية في ليبيا في الوقت الحالي. لعل أبرز هذه العوامل هو غياب الإجماع الداخلي حول اجتماع باريس وما يمكن أن يتمخض عنه من كيانات أو إجراءات. وقد أعلن بالفعل عدد من الفصائل المسلحة، وعدد من أعيان المدن، مثل مصراتة أن هذا الاجتماع بكل مخرجاته لا يمثلهم، وأنهم رافضون لنتائجه، وهي نقطة محورية في سياق محاولات التسوية السياسية في ليبيا على وجه العموم، كون الأطراف الأربعة التي باتت الأقوى في سياق المشهد الحالي مطعون على شرعيتها من قبل العديد من العناصر في الداخل الليبي، هذا بخلاف عدم اعتراف هذه الأطراف بشرعية بعضها البعض بشكل رسمي حتى الآن. الأمر الثاني يتعلق بالقدرة اللوجستية للدولة في ليبيا على تنظيم انتخابات أو الإشراف على عملية سياسية في أنحاء ليبيا بشكل نزيه وشفاف، وهو ما سيعني بالضرورة تدخل المجتمع الدولي لتطوير هذه القدرات، ومراقبة الانتخابات، وهو البعد الذي سيجعل من شرعية نتائج هذه الانتخابات هشة نظرًا لوجود تيار يرفض التدخل الأجنبي في ليبيا بكل أشكاله. هذا بالطبع بخلاف الجماعات المسلحة الرافضة لفكرة الانتخابات، والتي عبرت عن نفسها بقوة بتفجير المفوضية العليا للانتخابات في طرابلس.

في النهاية، لا يمكن التعامل مع اجتماع باريس والبيان الختامي الصادر عنه على أنه اختراق في الأزمة الليبية وإعلان عن انتهائها، ولكنه في النهاية يعبر عن الإصرار على الاستمرار في الدفع نحو إطار للتسوية السياسية تنتهي بانتخابات من قبل القوى الإقليمية والدولية وفقًا لمصالح كل منها. ولعل المكسب الوحيد حتى الآن من اجتماع باريس هو الجمع بين الأطراف الأربعة على مائدة مفاوضات واحدة. لكن الجدير بالذكر أيضا أن هذا لا يعبر سوى عن بدء مرحلة جديدة من التفاوض داخل كل كيان أولًا، ثم بين الكيانات الأربعة، ولكن كل جولات التفاوض في سياق الأزمة الليبية منذ بدء الانقسام السياسي عام 2014 لم تأت بتوافق حقيقي ينتج عنه كيان يحظى بشرعية مؤسسية وشعبية. لذا، يبقى الوضع في ليبيا بعد بيان اجتماع باريس على ما هو عليه من حيث استمرار حالة من التفاوض برعاية أممية ودولية، وإن كان الاجتماع عبر عن حالة من التحول في التوازنات الإقليمية والتحالفات حول ليبيا، خاصة في أوروبا.