عقد المركز سميناره العلمي الثالث في السادس من فبراير 2018، تحت عنوان "الأصول الفكرية لمفهوم النظام، والقضايا موضع المراجعة في أدبيات السياسات المقارنة". وقد قام دكتور وحيد عبد المجيد، مدير المركز بعرض المداخلة الرئيسية في السمينار الذي أداره د. أيمن عبد الوهاب، رئيس وحدة الدراسات المصرية بالمركز.
وقد أشار د. أيمن عبد الوهاب في بداية السمينار، إلى أن الجلسة تُعد الحلقة الثانية في نقاش بدأ الشهر الماضي بحضور الأستاذ دكتور علي الدين هلال، حول حقل السياسات المقارنة، واستكمال لحديث شديد الأهمية حول الاتجاهات والمراجعات الجديدة لمفاهيم ونظريات بدا لعقود طويلة أنها باتت مستقرة ومحل اتفاق علمي واسع، مثل مفاهيم الدولة، والسيادة، والديمقراطية.
***
في بداية عرضه أشار دكتور وحيد عبد المجيد إلى أن السنوات الأخيرة قد شهدت حالة غير مسبوقة لمراجعات ليس فقط لنظريات ومفاهيم حقل السياسة المقارنة، بل أيضا في حقل النظرية السياسية. وأكد على أن عرضه سيشتمل فقط على إلقاء الضوء على اتجاهات الجدل الدائر في إطار هذه المراجعات، دون تحديد وجهة نظره أو موقفه من أي منها، حيث إن الغرض الأساسي هو التنبيه إلى وجود هذه الاتجاهات الجديدة وفتح أفق الحوار حولها.
وقبل الدخول في مسألة مراجعة مفاهيم ونظريات حقل النظم السياسية، عرج دكتور وحيد عبد المجيد على مناقشة أصل مفهوم النظام، سواء كان النظام السياسي أو النظام الإقليمي أو العالمي. وطرح تساؤلا حول بداية استخدام تعبير أو لفظ النظام في الفكر الإنساني، وعن مدى جدوى هذا التساؤل، وإمكانية الوصول إلى إجابة. وقد أكد أن الوصول إلى الإجابة على رغم كونه عملا شاقا، إلا أنه ليس مستحيلا، ولكنه يبقى عملا بلا جدوى. والأهم هو البحث عن المعنى الذي يدل عليه مفهوم النظام، حيث إن استخدام اللفظ غير مهم، لأن دلالات الألفاظ تتغير عبر الزمان وعبر المكان. إذا عدنا إلى قرون ماضية في هذا المجال فمن الممكن أن نجد كلمة شبيهة لكلمة النظام، لكن يمكن أن تكون في سياق مختلف تماما، ولها دلالة مختلفة. فبالتالي لابد من التدقيق، حيث إنه أمر غاية في الأهمية.
تاريخيا كان أول تعبير عن معنى كلمة "نظام" في الفلسفة الصينية والإغريقية، عند كونفوشيوس وعند أفلاطون. لكن بالطبع التفكير في فكرة النظام كان سابق عن هذا بكثير، عندما بدأ الإنسان في التفكير في كيفية عمل الأشياء من حوله، أو في التفكير في علاقة الجزء بالكل، والتفكر في الظواهر الكونية والطبيعية. وقد بدأ الإنسان يفكر في نظام الوجود، منذ تطور الفكر الإنساني وظهور الأديان السماوية.
كما كان هناك تفكير مبكر لما يمكن أن نسميه "نظام أخلاقي" أو "كود للسلوك". وكذلك التفكير والكتابات عن النظام الاجتماعي، والنظام القانوني. ومع الوقت بدأ التفكير في النظام في مجالات مختلفة من العلوم الاجتماعية والطبيعية، حتى حدثت النهضة الكبيرة مع عصر النهضة واتساع حركة التفكير وزخمه.
وقد كان أول ظهور للمعنى الذي يدل على "النظام السياسي" -المعنى الذي نعرفه اليوم - في القرن الـ 18، حيث ارتبطت بدايات التفكير فيه بمسألة "نشأة السلطة" في أشكالها البدائية الأولى، وكيف تطورت. وقد كان الأكثر إسهاما في هذا المجال هم من كتبوا في ما يطلق عليه مجازا "نظريات العقد الاجتماعي"، وفي الحقيقة هي ليست نظريات، بل افتراضات، لأن النظرية لها مكونات ولها أركان.
إن أول معالجة للمعنى الأقرب لمفهوم النظام السياسي الذي نعرفه اليوم، جاءت في كتاب مونتسكيو "روح القوانين"، الصادر في سنة 1748، الذي تحدث فيه عن الفصل بين السلطات. وما بين منتصف القرن الـ 19 والقرن العشرين، جرت مياه كثيرة في الأفكار، لكن لم يبدأ التفكير في مفهوم النظام السياسي أو النظام العالمي بطريقة علمية منظمة إلا في خمسينيات القرن العشرين مع تبلور العلوم السياسية.
وعلى مستوى النظام العالمي، كان العمل الوحيد الذي يوجد فيه معنى قريب للمفهوم سابق على نشأة النظام العالمي، هو كتاب الألماني إيمانويل كانط "السلام العالمي"، والذي كانت أفكاره سابقة على نشأة عصبة الأمم بما يربو على قرن من الزمان. ولكن عمليا عند نشأة عصبة الأمم كان لدينا 42 دولة قومية مستقلة، ومع تصاعد حركات الاستقلال والتحرر الوطني وتصفية الاستعمار في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، أخذ عدد الدول المستقلة يتزايد، ومن ثم زاد التفكير في إنتاج علمي يناقش مفهوم "النظام العالمي".
أما التفكير في "النظام الإقليمي" فقد تمحور حول دراسة الفواعل الأساسية والرئيسية في العالم، وأن هناك دول وقوى تلعب أدوارها في مناطق مختلفة، وكان الطرح في البداية يقدم على أساس أنه نظام دولي "فرعي". وقد كانت الإسهامات الأولى في الستينيات، في كتابات "جوزيف ناي" و"لويس كانتوري" و"ستيفن شبيجل" وغيرهم من الذين وضعوا الأساس لمفهوم النظام الإقليمي ولدراسات النظام الإقليمي في حقل العلاقات الدولية.
أولا: مراجعة مفاهيم حقل السياسة المقارنة
أوضح دكتور وحيد عبد المجيد أنه وعلى مدار نصف قرن تبلورت تلك المفاهيم. وحتى بداية القرن الحالي كان هناك اتفاق واستقرار إلى حد كبير سواء في هذه المفاهيم أو ما يرتبط بها من مفاهيم فرعية.
1- مفهوم الدولة
منذ ما يزيد عن عشر سنوات بدأنا نقرأ كتابات تقوم بعمل مراجعات عميقة لمفهوم الدولة وعلاقته بالنظام السياسي. ونستطيع بشيء من الاختزال أن نصنف الجدل الدائر الآن في مجموعتين.
المجموعة الأولى: العلاقة بين الدولة والنظام السياسي أو بين الدولة وسلطة الدولة
والجزء الأكبر منها يراجع الافتراضات والأفكار المتعلقة بنشأة السلطة في المجتمع الإنساني. فالعلاقة بين أركان الدولة الثلاث، الأرض والشعب والنظام السياسي، كانت مستقرة إلى حد كبير لفترة طويلة إلى أن بدأ التفكير في مراجعة تلك العلاقة. فعلى سبيل المثال، ما كان مستقرا هو أن السلطة أو النظام السياسي هو الجزء الأحدث في هذا الكيان، على أساس أن الأفراد والأرض كانا موجودين بالفعل والذي جد عليهما هو السلطة وبالتالي فالدولة ارتبطت بوجود السلطة.
لكن هناك مراجعات ونقاش يدور الآن حول، هل الأفراد الموجودون الآن هم أنفسهم من كانوا متواجدين قبل الدولة؟ وهل الأرض بهذه الحدود في حالة الدولة هي نفس الأرض التى كانت موجودة قبل الدولة؟
هناك تطورات ونقاشات واختلافات نظرية وفكرية في هذا الموضوع حول العلاقة بين مكونات وأركان الدولة، وموقع النظام السياسي في الدولة، والتطور الذي حدث فيه، وبالتالى هل عندما نتكلم عن فرنسا، متى نتكلم عن فرنسا كدولة، ومتى نتكلم عنها كنظام سياسي؟
المجموعة الثانية: الجدل حول تأثير العولمة على الدولة
في حقيقة الأمر كان الجدل الفكري العالمي أوسع كثيرا من التناول العربي الذي دار خلال العقود الثلاث الماضية، حيث ركز الاهتمام العربي على التساؤل حول تراجع الدولة أم ثباتها في ظل العولمة. وكان هناك اعتقاد واسع على مستوى الفكر العربي بأن هناك تراجعًا ملحوظًا.
بصورة عامة، وعلى مستوى التفكير العالمي، عندما بدأ النقاش حول تأثير العولمة كان هناك أربعة اتجاهات:
- أن العولمة لا تؤثر على الدولة القومية أو الوطنية.
- أن هناك تأثيرات إيجابية وتأثيرات سلبية.
- أن هناك مشكلة لابد أن تواجهها الدولة في ظل العولمة.
- أن العولمة ليست إلا مرحلة من مراحل العلاقات الدولية.
على أي حال، هناك تراجع منذ نشأة الدولة في مجالات مختلفة، على سبيل المثال تراجع سلطة الدول أمام سلطة "منظمة الفيفا" على المستوى الرياضي. لكن يبدو أن الاهتمام بهذا الموضوع حدث عندما تراجع دور الدولة في تنظيم الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
وهنا يثور سؤال هل هذا التراجع يمثل تراجعا للدولة أم تراجعا في سيطرة النظام السياسي على الوضع الداخلي في الدولة؟ وهناك تيار يعتقد أنه بالفعل تراجعا لسيطرة النظام السياسي. في حين يرى اتجاه آخر أن التأثير يتجاوز النظام السياسي ويصل إلى بقية أركان الدولة فيؤثر على التماسك الاجتماعي، كما أنه من الممكن أن يكون له تداعيات على إقليم الدولة (الأرض). فحالات التدخل الإنساني الذي شهدها العالم أدت في بعض الأحيان إلى تفكك جغرافي، إلى جانب تأثيرها على التماسك الاجتماعي، وحالة يوغوسلافيا والبلقان هي الأكثر شهرة في هذا الشأن. هنا سنجد أن معظم التطورات فيما يتعلق بمسألة الدولة ونظرياتها، لها علاقة بمبدأ السيادة.
2- مفهوم السيادة
أشار دكتور وحيد عبد المجيد إلى أن المفهوم يعود إلى مبادئ وستفاليا في 1648. والجدل حول السيادة جدل مستمر، والسؤال المطروح دوما حتى اللحظة الراهنة هو: هل يحدث تآكل في سيادة الدولة، أم أن مبدأ السيادة، طبقا لما تم تقنينه في ميثاق الأمم المتحدة بشكل واضح ومحدد يبقى كما هو؟
ومن آخر الكتابات المهمة جدا في هذا الموضوع مقالة "ريتشارد هاس" المنشورة في مجلة Foreign Affairsعدد يناير/ فبراير2017، بعنوان "The Case for Sovereign Obligation" فكرتها الأساسية أن مبدأ السيادة لا يمكن أن يبقى على حاله. والجديد الذي قدمه هاس في مقاله هو أن الدولة التي تتخذ إجراءات خارجية للتدخل في شئون وسيادة دول أخرى، تقوم بذلك مضطرة لدرء خطر، وليس لتحقيق مصالح أو أهداف توسعية كما كان في الماضي. كما يتوقع في مقاله أن هذا التوجه الاضطراري سيزداد كثيرا في الفترة القادمة.
وأعطى دكتور وحيد مثالا تطبيقيا على نظرية هاس في الأزمة السورية، حيث إن جميع الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة فيها تتحدث عن اضطرارها للتدخل وعن فكرة الأخطار العالمية لعدم تدخلهم. وبالطبع جاء موضوع الإرهاب وأعطى ذرائع لا نهائية لهذا النوع من التدخل. وعلى الرغم من أن الإحصائيات العالمية تشير إلى أن ضحايا الإرهاب أقل من ضحايا حوادث الطرق أو الأوبئة على سبيل المثال، إلا أن الإرهاب تحول إلى "فوبيا"، ثم تحول إلى ذريعة لمن يرغب أن يفعل أى شيء في أى مكان! ثم تحول إلى "بيزنس" أو تجارة على نطاق واسع!
3- مفهوم الديمقراطية
ربط دكتور وحيد عبد المجيد بين المراجعات الفكرية الأخيرة حول مفهوم الديمقراطية وأزمة النظام الديمقراطىي في معاقله الأساسية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. فهناك أزمة عميقة تواجه النظام الديمقراطي، وتثير أسئلة منها مثلا:
هل هي أزمة بنائية أم أزمة وظيفية؟بمعنى هل هي أزمة في بنية النظام الديمقراطي أم أنها أزمة في وظائف مؤسساته؟ والمهم أن هذه هي المرة الأولى التي يُطرح فيها السؤال بهذا الشكل في المجال العلمي والأكاديمي. فقد كان مستقرا علميا أن النظام الديمقراطي إن لم يكن أفضل النظم فهو أقلها سوءا، الآن هناك تطور كبير في هذا الجدل.
هل هي أزمة دورية؟بمعنى كونه أمرا طبيعيا كما يحدث مع النظام الرأسمالي على سبيل المثال، والذي يمر بمراحل صعود وهبوط.
هل هناك علاقة بين أزمة الديمقراطية وأزمة الليبرالية؟وإذا كانت هناك علاقة، فأيهما سابق على الآخر؟ وهل يكون أحدهما سببا أو نتيجة، أم أن هناك تغذية متبادلة بينهما؟
وقد أكد دكتور وحيد أن هذا السؤال لا يطرح إلا إذا كان هناك إدراك واضح للفرق بين مفهومي الديمقراطية والليبرالية، لأنه في كثير من الأوساط يحدث خلط، وشيوع تعبير الديمقراطية الليبرالية يعزز هذا الخلط. الآن الجدل العلمي يدور حول العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. وأشار إلى أنه ناقش هذا الكلام في كتابه "الليبرالية، نشأتها وتحولتها وأزمتها في مصر" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في سنة 2014. وآخر كتاب صادر في هذا الشأن منذ شهور هو كتاب مهم جدا لـ "ستيفن ليفيتسكي" و"دانيال زبلات" بعنوان "How Democracies Die"، الصادر في أواخر 2017. لكن من الكتابات التى لها دلالة في هذا الموضوع، هو كتاب "فوكوياما" بعنوان "Political Order and Political Decay" في 2014. في هذا الكتاب يقدم "فوكوياما" مراجعة جوهرية لكتابه الصادر منذ 22 عاما "نهاية التاريخ". ففي كتابه الجديد نسف تقريبا 70% مما جاء في كتابه القديم. وإذا ما وضعنا الكتابين موضع التحليل نستطيع أن نضع يدنا على حجم المراجعات والجدل في المفاهيم.
واختتم دكتور وحيد عبد المجيد عرضه بالإشارة إلى أن المراجعات بصورة عامة هي أمر محمود، يدل على التجدد والتطور وهي تكسر الجمود. لكن هذه المراجعات لا تخلو من ارتباكات تعد انعكاسا للارتباكات الموجودة في العالم الآن، وهو أمر غير مسبوق على أي حال.
***
عقب العرض قدم دكتور أيمن عبد الوهاب تعقيبه على الأفكار التي طُرحت، وفتح باب المداخلات والأسئلة للحضور. وقد دار النقاش حول مجموعة من النقاط، منها:
علاقة الدولة بالعولمة
اعتبر دكتور أيمن عبد الوهاب أن كثير من الأدبيات العربية التي تناولت مسألة العولمة كانت تركز أكثر على فكرة الخوف على السلطة أو الدولة. في حين تسائل دكتور محمد السعيد إدريس عن نسبية تأثر دول العالم المختلفة بالعولمة. وبصورة أوضح أشار إلى أنه يبدو أن هناك دولا بعينها كانت أكثر عرضة لهذا التأثير، لكن هل كان هذا بسبب ضعف البنية الداخلية أم أنها كانت مستهدفة من أطراف خارجية. ومن ثم، فإننا نحتاج إلى مراجعات ودراسات حول مسألة العولمة واختراق الدول. فدولة مثل إيران يثور فيها جدل الآن حول أن حل أزمة الملف النووي ومن ثم الانفتاح الاقتصادي وانفتاح الاستثمارات مع الخارج ربما يجلب ثقافة جديدة قد تؤدي إلى تفكيك الدولة. هل الدولة المغلقة عندما تنفتح على الخارج تتفكك؟ ولذلك يجب أن ندرس عوامل تفكيك الدول وهل هي مسألة نسبية أم تقع أثارها على كل الدول بنفس القوة؟
وفي المقابل أشار دكتور محمد فايز فرحات، إلى خصوصية التجربة الصينية تقدم إجابة مختلفة عن علاقة الدولة بالعولمة، بل تقدم نموذجا للعلاقة الصحية والإيجابية لهذه العلاقة. وأوضح أنه فيما يتعلق بكل الأسئلة ومجموعات الجدل كلها التي تفترض تآكل وقدرة الدولة على التحكم في إقليمها وفرض سيطرتها على المجتمع أو الشعب في ظل العولمة، نجد استجابة صينية كثيفة مع ظاهرة العولمة، فقد انفتحت على النظام الاقتصادي العالمي، واستندت تجربتها في التنمية بالأساس على حرية التجارة. والمفارقة أنه في الاجتماع الأخير لمنتدى آبيك أعلن ترامب انسحابه من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي، في حين أعلن الرئيس الصيني على العكس تمسكه بالعولمة وحرية التجارة العالمية. بالتالي نحن إزاء تجربة مختلفة للعلاقة بين الدولة والعولمة، فالدولة في الصين لا زالت قوية متمسكة بنظامها ومفهومها للنظام الاقتصادي الداخلي، وجمعها النادر بين مفهومها للاشتراكية بالخصائص الصينية وما بين النظام الليبرالي، فهناك ليبرالية كبيرة بالمعنى الاقتصادي داخل الصين، وهناك تمسك أيضًا بالمفاهيم التقليدية للدولة وفي ذات الوقت انفتاح واسع على العالم.
وقد أوضح دكتور حازم محفوظ في مداخلته تحيزه لفكرة أن تراجع دور الدولة أمام العولمة، وهذا ممكن أن نرصده عندما نرى تأثير العولمة على الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأن العولمة أكثر من كونها اقتصادية.
مبدأ السيادة وذرائع اختراقه
تساءل دكتور أيمن عبد الوهاب عن موقفنا الفكري من التوجه العالمي من تحويل تهديدات الإرهاب إلى فوبيا ثم إلى "بيزنس" تجارة عالمية.
وتعليقا على فكرة ريتشارد هاس التي عرضها دكتور وحيد عبد المجيد، حول التدخل الاضطراري، أشار دكتور محمد فايز فرحات في مداخلته إلى فكرة الأساس الأخلاقي للتدخل. ومثالا على ذلكفالولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر 2001 طرحت مفهوم التدخل لإعادة بناء الدول الفاشلة. حيث تدخلت بقوة في حالة أفغانستان، وفي حالة العراق وكان الشعار الرئيسي هو التدخل لإعادة انتاج التجربتين الألمانية واليابانية، وأيضا شعار الحرب على الإرهاب. بمعنى أن التدخل العسكري كان إما لمواجهة الإرهاب أو لنشر الديمقراطية أو لحماية حقوق الإنسان. في جميع الأحوال انتهي هذا التدخل إلى نتائج مختلفة تماما. فلم يتم إعادة بناء تلك الدول "الفاشلة" أو المنهارة بأي حال من الأحوال. كما أن التدخل أدى إلى تفكيك أو تدمير دول كانت متماسكة بالفعل، وتم بناء أنظمة سياسية غير مستقرة تماما، مثل ما حدث في ليبيا والعراق وأفغانستان. وفيما يتعلق بهدف الحرب على الإرهاب انتهي الأمر إلى إنتاج تنظيمات على يمين تنظيم القاعدة مثل داعش. في المقابل في حالة الصين مازالت تتمسك بقوة بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول رغم ما توصلت إليه من قدرات عسكرية وقدرات اقتصادية لكن مازالت تتمسك بالمفهوم التقليدي لمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية، بالتالي أعتقد أن الأساس الاخلاقي لابد أن يكون حاضرا في ذهننا ونحن نتعامل مع هذه المفاهيم.
أزمة الديمقراطية
أكد دكتور أيمن عبد الوهاب أن السياق العربي أو المصري، يحتاج أن يناقش قضية التطور المجتمعي، ودور المجتمع المدني كقوى فاعلة لتحريك الديمقراطية وتحريك التنمية، لأن مسألة الأزمة البنائية والوظيفية للديمقراطية ما زالت بعيدة كثيرا عن واقعنا.
وفي مداخلته أشار دكتور إدريس إلى أن الديمقراطية الليبرالية تعاني اليوم من أزمة حقيقية، خاصة بعد أزمات النظام الرأسمالي، والتي أدت إلى ظاهرتي تركز الثروة وتركز السلطة. وفي رأيه أن انتخاب دونالد ترامب مثال حي على أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة. ولذلك يجب مراجعة مفهوم الديمقراطية. كما أننا نحتاج إلى تفكير في مآل الليبرالية، وكيف يمكن تطوير مفهوم بديل أو تنظير أكثر اتساقا بين الفكرة وبين مؤسساتها. والتساؤل حول إلى أي حد تكون المؤسسات والهياكل الموجودة بالفعل جديرة بأن تعبر عن فكرة الحرية؟
وقد أكد دكتور عادل عبد الصادق على الفكرة ذاتها بقوله إن الدول الديمقراطية الليبرالية تعاني من تدني هائل في مستويات المشاركة السياسية، وأنها أدت إلى تصاعد فكرة الأقليات. وأشار كذلك إلى أن بعض الأنظمة السياسية تحاول توظيف بعض الاتجاهات العنصرية لأسباب تتعلق بالحشد والتعبئة.
وتساءل دكتور حازم محفوظ، في مداخلته عن صحة القول بموت الديمقراطية، مشيرا إلى أنها تراجعت ولم تمت، ولكن الفكر الغربي دائما يطرح أفكارًا وتنبؤات مثل "نهاية الأيديولجيا" و"نهاية اليوتوبيا" و"نهاية المؤلف"، و"نهاية حقبة حقوق الإنسان في عهد أوباما"، والآن يحدث الترويج لأفكار موت الديمقراطية.
أما دكتورة أماني الطويل، فقد أشارت إلى أن الديمقراطية وطبيعة رؤية الأجيال المختلفة لهذا المفهوم، يبدو أنها مسألة حاكمة في بؤرة تفكيرنا في مصر، خاصة مع ظهور أطروحات في هذه المرحلة تقول بأن الديمقراطية ربما تكون معادية لفكرة تماسك الدولة. وعلى أي حال، فإن المراجعات التي تم طرحها مركزها العالم الغربي، في المقابل في أفريقيا هناك مراجعات من نوع آخر. بمعنى هل النظام الديمقراطي قابل للتطبيق في أفريقيا بنجاح؟ وهناك أطروحات تتحدث عن أنه ربما تكون الديمقراطية غير ناجحة في أفريقيا، وأن تكون قد أدت بشكل أو بآخر إلى تفكك دول وإلى انهيار سلطات وعدم استقرار سياسي في بعض الحالات، إلى الحد الذي وجدنا جهات غربية تدعم رؤساء مثل "بول كاجامي" في روندا على اعتبار أنه يملك ما لا يملكه غيره. المراجعات الأفريقية مرتبطة بالعودة إلى نظم وسلطات ما قبل الاستعمار الغربي بشكل أو آخر في تجلياته التقليدية، وهكذا.
الاستاذ سعيد عكاشة اعتبر أن أزمة الديمقراطية، تتعلق بالأساس بفكرة "الفجوة الزمنية"، بمعنى أن المشكلة تحدث مع حدوث فرق بين قدرة مؤسسات النظام الديمقراطي في تلبية تطلعات الناس وبين نظرية الديمقراطية نفسها. فعلى سبيل المثال، إذا كان المحور الاقتصادي الاجتماعي يتطور في مجتمع ما بسرعة أعلى من وتيرة الإصلاح السياسي مثلا، فذلك سيؤدي إلى نتائج سلبية. وهو ما حدث في إندونيسيا في أواخر تسعينيات القرن العشرين.
وفي العالم الثالث بصورة عامة لم تستطع فكرة الديمقراطية أن تعيش في بيئة متخلفة اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا فحدثت مشكلة. والآن تحدث نفس المشكلة في الغرب، فهناك ظاهرة أحزاب ما بعد الإنسانية، والتي توجد في خمس دول، منها: فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، النرويج. وهي أحزاب تقوم على فكرة عدم المساواة بين الأفراد، والاعتراف بتفاوت الناس في القدرات ومن ثم في الحقوق.
في إسرائيل على سبيل المثال، والتي طالما تباهت بأنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، أشار استطلاع رأي أجراه المعهد الديمقراطي الإسرائيلي، أن 57% من المواطنين يفضلون حاكم قوي على برلمان منخب يحكمه.
بصورة عامة يبدو أن كل الأسس التي نتجت عن فكرة الديمقراطية أصبحت مأزومة الآن، والأزمة ناتجة عن الفجوة الزمنية، والسؤال هو هل نستطيع أن نطور في الأفكار الخاصة بالديمقراطية بما يجعلها تتماشى مع التطور الاقتصادي الاجتماعي؟
مفهوم النظام واللا نظام
أثار دكتور معتز سلامة مسألة إشكالية التنظير للنظام من حيث القيم، وعدم إمكانية بناء نظرية حول ذلك. وطرح تساؤلا حول النظام العالمي: هل نحن في مرحلة الفوضى واللانظام؟ هل نحن نأطر نظريا لنظام عالمي غير قائم؟
وفي مداخلته اتفق دكتور محمد فايز فرحات مع طرح دكتور معتز، واستفاض في هذه النقطة بقوله إننا ربما نحتاج الى التحرر من مفهوم النظام، حيث إننا إزاء مفاهيم مختلفة. وأن هذا الجدل سيظل محيرا إلى أن نصل إلى مفهوم يحل هذا الإشكال. وأكد على التساؤل السابق، هل مفهوم النظام العالمي لازال صالحا؟ أيضا مفهوم النظام الإقليمي الذي كان يستند الى التماس الجغرافي geographic proximityبمعنى استناده إلى إقليم محدد واضح بالمعنى الجغرافي، لم يعد قائمًا، وفي المقابل ظهر مفهوم “الإقليمية المفتوحة" open regionalismالذي يستند إلى نظريات أقوى من مفهوم النظام الإقليمي بالمعنى التقليدي،. كذلك فإن مفهوم "تعدد الأطراف" multilateralismو"العلاقات عبر الأقاليم" inter-regionalismربما تكون أقوى في تماسكها من مفهوم النظام العالمي، وبالتالي سنظل في هذه الحيرة إلى أن نصل إلى مفهوم بعيدا عن كلمة "النظام" ربما كلمة "اللانظام" تحل الإشكال مؤقتا.
وطرحت دكتور هناء عبيد تساؤل: هل حالة الفوضى أو اللانظام التي تحدث عنها دكتور محمد فايز فرحات تدفعنا إلى إعادة الاعتبار للمدرسة الإنجليزية؟ وأوضحت أن فكرة النظام الدولي من أول نشأتها يحدها معضلة أنه لايوجد سلطة على المستوى الدولي، والأطروحات والنظريات المختلفة جميعها تم تأطيرها على أساس كيفية التعامل في ظل غياب السلطة الدولية. المدرسة الواقعية ركزت على فكرة القوة والمدرسة الليبرالية ركزت على فكرة المصلحة. المدرسة الإنجليزية الإيجابي فيها أنها قامت بالدمج بين الفكرتين في محاولة لاستلهام بعد أخلاقي وقالت بوجود منظمات للسلوك على المستوى الدولي، وبوجود كوابح تجعل الدول والوحدات تغلب المصلحة. هذه الكوابح منها القانون الدولي، المؤسسات، الجامعة المشتركة، الحرب أو تجنب الحرب، والدبلوماسية. هل نحن الآن في مرحلة سيولة على مستوى كل هذه الكوابح؟ حيث إن كل من هذه الكوابح يشهد حالة من حالات السيولة أو الأزمة وهذا يعزز فكرة البعد الفوضوي ويجعله غالب أكثر. وأخيرا طرحت دكتورة هناء تساؤل: هل أزمة السلطة على المستوى الوطني ترتبط بحالة السيولة على المستوى الدولي؟
أصل مفهوم النظام ومعناه
في مداخلته أكد دكتور حازم محفوظ على التسلسل التاريخي لظهور مفهوم النظام في التاريخ الفكري الإنساني تأكيدا لما عرضه دكتور وحيد عبد المجيد في بداية السمينار. وأضاف أن السوفسطائيين أيضا تحدثوا عن مفهوم النظام قبل أفلاطون وأرسطو في الفلسفة اليونانية. ثم ظهر المفهوم بعد ذلك في الفلسفة المسيحية، وتحديدا في كتابات أوغسطين في مدينة الله، الذي قسم النظام الى مدينة سماوية ومدينة أرضية. ثم توما الإكويني الذي كان على خلاف شديد مع أوغسطين. فكرة النظام انتقلت إلى مستوى آخر في العصر الحديث مع فلاسفة العقد الاجتماعي. كما أن أصل النظام موجود عند مونتسكيو في روح القوانين وأيضًا عند ألتوسير وعند ابن خلدون.
وتعليقا على معنى مفهوم النظام، رأى دكتور عادل عبد الصادق، أن المعنى الذي ساد لفترة طويلة لم يعد مسلما به، والأكثر أنه حتى منذ ظهور كتابات دايفيد إيستون عن فكرة المدخلات والمخرجات كان هناك مراجعات لها. واليوم يمكن أن نتحث عن فكرة المدخلات الكامنة التي لم يكن يتم رصدها من قبل. على سبيل المثال ارتفاع الأسعار أو غيرها من السياسات ذات التأثير على الرأي العام، والتي ربما لا تنتج بالضرورة رد فعل شعبي مباشر. لكنه قد يظهر في وقت لاحق أو في ظروف مختلفة.
وأضاف دكتور عادل عبد الصادق أن التغير لم يعد فقط في علاقة المدخلات بالمخرجات، بل أيضا في بيئة عمل النظام، بمعنى أن النظام السياسي لم يعد هو المصدر الوحيد للمعلومات، ومن ثم فقد سيطرته الكاملة على المجتمع، الذي أصبح لديه مصادر معلومات مختلفة. ومن ثم بدأ المجتمع يصنع رأيه وفكره بعيدا عن المؤسسات الرسمية ما أدى إلى حدوث فجوة قدرة النظام على التعبير عن تطلعات الشعب.
***
في ختام السمينار عاود دكتور وحيد عبد المجيد الحديث للتعقيب عما ورد من أفكار وتساؤلات في النقاش المفتوح. وأكد على أن ما قام بعرضه في مداخلته الرئيسية في بداية الجلسة ما هو إلا ملامح لتطورات، كل واحدة منها تحتاج سمينار أو أكثر.
وبدأ بالتعليق على موضوع العولمة ونسبية تأثيرها على دول العالم. وأكد أنها قد أثرت على الجميع، والولايات المتحدة أصبحت تشكو منها وتتخذ إجراءات حمائية لم تكن متصورة منذ سنوات قليلة وربما شهور قبل هذه الإدارة. وأضاف أن تأثير العولمة نسبيا ليس بين الدول فقط، وإنما داخل الدولة الواحدة أيضا. ففي البلد الواحد نجد تقييمات متعددة ومختلفة لأن المسألة معقدة وترتبط بالمصالح. على سبيل المثال، هناك جزء مهم من قاعدة ترامب الانتخابية هم عمال تضرروا من انتقال شركات أمريكية كبيرة وكثيرة للعمل في الخارج بحثا عن عمالة أرخص، وفي الوقت ذاته هناك قطاعات أخرى لا تقل، بل بعضها يزيد أهمية عن هؤلاء، استفادت من العولمة ومازالت تريد إلغاء هذه الاجراءات الحمائية. فهي مسائل جميعها نسبي.
وتعقيبا على مداخلة دكتور محمد فايز فرحات عن الصين، أكد دكتور وحيد عبد المجيد أن الصين الآن هي التي تقود الدعوة إلى العولمة. واعتبر أن مسار العولمة لا يمكن إيقافه، لأن جزء كبير منها يقوم على حركة اقتصادية واجتماعية وثقافية تحدث في الواقع. وتجربة الصين تثبت فرضية مهمة في العلم عموما، وهي أن كل العوامل الخارجية تأثيرها يتوقف على العوامل الداخلية، العوامل الداخلية هي الحاكمة، الصين لديها مناعة داخلية أكثر من بلاد أخرى وبالتالي استطاعت بموجب هذه القناعة أن تقلل تأثيراتها السلبية. الصين استطاعت أن تقلل السلبيات وتزيد التأثيرات الإيجابية وتعظمها لما لديها من مناعة داخلية تتيح الحماية من أي تأثير سلبي يمكن أن يحدث.
في ما يخص موضوع الديمقراطية، أوضح دكتور وحيد أن النظرية الديمقراطية تدرس الديمقراطية باعتبارها نظام سياسي، حيث أن الديمقراطية نشأت بالأساس كنظام سياسي أي أن الديمقراطية لم يكن لديها حمولة فكرية. والخلط بين الديمقراطية والليبرالية يؤدي إلى الوقوع في أخطاء كبيرة. فالليبرالية سابقة على الديمقراطية وتعود إلى أواخر القرن الـ 15 وبداية القرن الـ 16 مع بداية عصر النهضة الأوروبية في الفنون والآدب وتحرر العقل من الجمود الذي كان فيه. ولذلك فإن الليبرالية هي حالة ثقافية في الأساس، وهي نوع من الأفكار تقوم على منظومة قيم مفتوحة وليست مغلقة ولذلك دائما كان هناك خطأ شائعا بوضع الليبرالية في مواجهة الماركسية، والليبرالية في مواجهة الديمقراطية الاشتراكية. الليبرالية هي نسق مفتوح يحمل اتجاهات متعددة داخله. ومن أكبر الصراعات الفكرية في العالم الآن هي الصراعات بين الليبراليين أنفسهم، أنصار الليبرالية الجديدة وأنصار الليبرالية الاجتماعية.
أما أزمة النظام الديمقراطي فهي أزمة متعلقة بالمؤسسات. النظام الديمقراطي نشأ مع وصول ميزان القوى الاجتماعي والسياسي في أوروبا إلى حالة فرضت تقييد سلطات الحاكم، وأصبح مضطرًا لفرض ضرائب كان لابد أن يقنع الناس بدفعها والناس لن تقتنع إلا إذا وجدت أن لها مصلحة في هذا. ومن هنا نشأت فكرة التمثيل كحالة واقعية وليس كنظرية أو فكرة. بمعنى أن يكون هناك ممثلون يتابعون كيف تُنفق هذه الضرائب. ومن ثم، أصبح هناك برلمان ومن داخله بدأت تنشأ الأحزاب السياسية، وبدأت تتطور. بالتأكيد الأفكار والثقافة الليبرالية أثرت في ظهور النظام الديمقراطي ومؤسساته، لكن الليبرالية في بدايتها لم تكن لها علاقة بالديمقراطية. ورواد الليبرالية لم يهتمو بالنظام السياسي لفترة طويلة، ولكنهم اهتموا بالقيم والتنوير الفكري والثقافي. بعض أعظم رواد الليبرالية كانوا مستعدين لقبول نظام ديكتاتور مستنير. كذلك الأمر فيما يتعلق بالليبرالية والرأسمالية، فكلاهما بدأ كمحور منفصل ثم التقيا في مسألة الحرية الاقتصادية.
أزمة الديمقراطية الآن هي أزمة مؤسسات لا تستطيع أداء الوظائف المتوقعة منها، حيث إن أعدادا هائلة من الناخبين يشاركون في العملية الانتخابية، لاختيار برلمانات ورؤساء، ثم تعجز هذه المؤسسات عن القيام بدورها. تلك الفجوة تصنع فراغا يتمدد في دول رغم أنها أصبحت ديمقراطية، ولذلك من ضمن المراجعات القائمة هي مراجعة العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، بمعنى العلاقة بين فعالية النظام الديمقراطي وبين وجود ثقافة ديمقراطية ليس فقط بين نخبة الحكم، فهي ثقافة ليبرالية توفر مناخ التسامح مع الاختلاف. كل الاتجاهات الآن بما في ذلك القوميون المتطرفون هم مع آليات الديمقراطية، ولكن ما يميز الليبرالية هو المدى الذي يمكن أن يصل إليه المجتمع في قبوله بالاختلاف مهما وصل مداه وإلى أي حد يمكن أن يبلغه.
واعتبر دكتور وحيد أن أحزاب "ما بعد الإنسانية" التي تحدث عنها الأستاذ سعيد عكاشة، هي انعكاس لما جاءت به الليبرالية الجديدة والتي ضربت الليبرالية التقليدية في بعض أهم أسسها وهي فكرة المساواة. وهناك تنظيمات للديمقراطية الجديدة منذ السبعينيات تتحدث عن خرافة المساواة بين أفراد غير متساويين لا يمكن أن يتساوا، لأن قدراتهم وإمكانياتهم مختلفة. وهناك تيار في الليبرالية الجديدة يتحدث عن عدم جدوى إعطاء فرص متكافئة لأفراد لا يمكن أن يتكافئوا. ويعتقد هذا التيار أن الرعاية الاجتماعية للمجتمع كله أمر غير مجدي، لأن هؤلاء المشمولين بالرعاية لن يتتطوروا، وأنه كلما زاد الاهتمام بالضعفاء في المجتمع زادت احتمالات جذب المجتمع كله إلى الخلف. ولهذا هناك انقسام عميق الآن في الأوساط الليبرالية بين الليبرالية الجديدة والليبرالية الاجتماعية التي تطورت منذ جون رولز وكتابه عن العدالة والمساواة، حيث تطورت أفكارا في مواجهة الليبرالية الجديدة. لكن الليبرالية الجديدة مدعومة من شركات كبرى وقوى اقتصادية ضخمة أعطتها قوة وتفوق في السجال العلمي الذي يحدث داخل بعض الجامعات بين أنصار الاتجاهيين.
وردا على موضوع النظام واللانظام، أكد دكتور وحيد أن الحديث عن اللانظام هو في الحقيقة حديث عن الوجه الآخر للنظام، حيث إن اللانظام ليس مفهوم قائم بذاته، ولكنه حالة ناشئة عن اختلال في النظام في لحظة ما. ومن ثم لا نستطيع أن نعرف "اللانظام" أو نحدده أو نضع له أركانًا، ليس فقط على المستوى العالمي أو السياسي في هذا البلد أو ذاك إنما على مستوى الحياة كلها، حيث إنها محكومة بنظام في مختلف مجالاتها ويحكم حركة كل الأشياء التي نراها التي لم يفهما الأشخاص في البداية. هذا النظام يختل في بعض المراحل وبعض الأحيان. وبالتالي لا نستطيع أن نصل إلى القول بأن مفهوم النظام تداعى أو أنه لم يعد مفيدا في البحث العلمي، ولكننا نرصد وندرس الاختلالات التي تتعرض لها النظم، وهي واضحة تماما على المستوى العالمي، وعلى الرغم من ذلك لا يمكن القول بسقوط قواعد النظام العالمي، حتى على مستوى من ينتهك هذه القواعد من الدول، لا يستطع أن يقول إنه يرفضها، إنما يبرر انتهاكها ويحاول أن يجد ذريعة لهذا الانتهاك.
ووفقا لمفهوم، من الممكن أن يختل في مرحلة معينة ويؤدي هذا الاختلال إلى حالة من السيولة، ولكن تظل وحدة التحليل هي النظام. بمعنى رصد هل هذا النظام يعمل أم لا، بأي مستوى، وأدائه يحقق الوظاائف المطلوبة منه أم لا، وما هي العوامل التي تؤدي إلى نجاحه وفشله.
ولذلك سوف يظل النظام هو الوحدة التي نستخدمها في التحليل الى أن نجد وحدة أخرى، لأنه بدون نظام لا يمكن أن يكون هناك وحدة تحليل. ولذلك سنحتاج أن نفكر أكثر في الجدل الموجود في العالم وأن نتابع بقدر ما نستطيع النقاشات الفكرية الدائرة، التي تفتح آفاقا جديدة للتفكير. والمرحلة الحالية هي مرحلة نحتاج فيها أن نجعل تفكيرنا مفتوحا؛ فهي مرحلة لا يمكن فيها حسم الأفكار.