اثارت قضية التمويل الأجنبي العديد من الإشكاليات والتساؤلات حول الجهات الأجنبية المانحة وأسباب ودلالات التمويل، والقضايا التي تعمل عليها مؤسسات المجتمع المدني، وقد تم تسليط الضوء علي تلك الازمة في أعقاب ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، فخلال فترة حكم المجلس الاعلي للقوات المسلحة تم فتح تلك القضية والتي عرفت اعلاميا ( قضية التمويل الأجنبي) حيث اتهمت النيابة العامة ٤٣ ناشطا من بينهم ١٩ أمريكيا، بتأسيس وإدارة فروع لمنظمات دولية بدون ترخيص، وتسلم وقبول تمويل أجنبي من الخارج بما يخل بسيادة الدولة المصرية. وشملت قائمة المنظمات المتهمة في القضية (المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الدولي، ومؤسسة فريدوم هاوس، والمركز الدولي الأمريكي للصحفيين، ومؤسسة كونراد أديناور الألمانية). وكان اتهام النيابة للنشطاء والعاملين في منظمات المجتمع المدني على خلفية إعلان السفيرة الأمريكية آنذاك "أن باترسون"أمام لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشيوخ أن 65 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية وأن الولايات المتحدة قد قدمت دعمًا لهم بما يقارب 40 مليون دولار خلال خمس شهور وذلك لدعم الديمقراطية في مصر في أعقاب ثورة 25 يناير. وقد أكدت على ذلك وزيرة التعاون الدولي آنذاك فايزة أبو النجا التي أوضحت أنه خلال أربعة شهور (مارس- يونيو 2011) تم تمويل منظمات المجتمع المدني بحوإلى 175 مليون دولار، في حين بلغ حجم التمويل خلال أربع سنوات من 2006 إلى إلى 2010 ما يقارب 60 مليون دولار فقط.
ونظرًا للتغطية الإعلامية الكبيرة التي حظيت بها هذه القضية وتصويرها على أنها محاولة من جهات أجنبية للتدخل في الشأن المصري الداخلي، وتم خلط الأوراق بين العمل السياسي والتنموي مع أحداث الثورة وقضايا التمويل. وأصبح من الواضح أن هناك التباسًا بين شرعية عمل العديد من المنظمات الأهلية وقانونية تلك المنظمات. فمن ناحية يعد قانون 84 لعام 2002 الإطار الإداري المنظم للعمل الأهلي في مصر ولكن هناك العديد من الانتقادات التي توجه لهذا القانون والمسودات التي صدرت لمحاولة تعديله لوجود مواد واضحة تحاول من خلالها الدولة فرض سيطرتها على القضايا والموضوعات التي يمكن للمنظمات الأهلية العمل بها إلى أن أصبح السجال الدائر بين المنظمات الأهلية والدولة كأنه صراع على الشرعية والسيادة. فمن ناحية تتبنى الدولة أنه من حق أي دولة تنظيم العمل الأهلي ووضع الأطر الخاصة به، ومن ناحيتها تتهم منظمات المجتمع المدني الدولة بأنها من خلال هذا القانون لا تسعى "لتقنين"العمل الأهلي بل هي تحاول وضع العراقيل أمام العمل الأهلي والحد من قدرة المجتمع المدني من العمل في القضايا الحقوقية والتوعوية وخصوصًا فيما يتعلق بالانتخابات والتحول الديمقراطي والوضع في السجون وما إلى ذلك من قضايا لا تريد الدولة المصرية الخوض فيها.
ويعتبر الصراع الحالي بين مؤسسات المجتمع المدني والجهات المانحة من ناحية، والدولة المصرية من الجهة الأخرى ليست مواجهة جديدة، بل سبق ذلك مواجهات عدة بين المجتمع المدني والدولة المصرية، ويرى البعض أن أول مواجهة حقيقية بين المجتمع المدني والدولة جاءت في 1953 بعد قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حل الأحزاب السياسية وإنشاء كيان سياسي واحد تطور من كونه هيئة تحرير ثم اتحاد قومي إلى أن وصل إلى الاتحاد الاشتراكي. ثم تلى ذلك العديد من قرارات التحجيم للجمعيات الأهلية مثل إيقاف عمل الاتحاد النسائي واتحاد فتيات النيل، ثم تم إصدار قانون 348 لسنة 1956والذي قام بحل التنظيمات الأهلية واعتبر هذا القانون أن أي مخالفة لنصوصه هي جريمة تخضع لقانون العقوبات.
ويرى البعض أن الأزمة الثانية التي طالت المجتمع المدني كانت خلال فترة حكم الرئيس السابق حسني مبارك والتي شهدت فرض الحراسة على بعض النقابات ومحاولة التحكم في عمل مؤسسات المجتمع المدني وخصوصًا الجهات العاملة في مجال حقوق الإنسان مما دعا تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2008 إلى الإشارة إلى الدور الذي يمارسه "الأمن المصري في إعاقة تسجيل وعمل العديد من الجمعيات الأهلية خاصة تلك المعنية بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن هناك دورًا مؤثرًا للأمن المصري في مدى السماح بإصدار تراخيص لهذه الجمعيات أو السماح بممارسة بعض أنشطتها، ويؤكد التقرير على أن هذا الدور الممنوح للأمن من خلف الستار غير قانوني."
ولم تتغير التهم التي توجه للمجتمع المدني منذ بداية عام 2000 إلى الآن، فيشير تقرير التنمية البشرية لعامي 2005 و2008 إلى أهمية دور المجتمع المدني في التنمية في مصر وركز تقرير عام 2008 على التصدي لمحاولات تشويه المجتمع المدني وتبرئته من شبهة تنفيذ أجندة أجنبية، وأكد التقرير أن التمويل الأجنبي للمجتمع المدني ضئيل جدًا مقارنة بالتمويل الذي تقدمه نفس الجهات الممولة في شكل دعم ثنائي للحكومة المصرية وهي نفس النتيجة التي توصلت لها دراسة حول دور الاتحاد الأوروبي في دعم مؤسسات المجتمع المدني في مصر بين عامي 2007 إلى 2013، خلصت الدراسة إلى أن حجم التمويل المتوفر للتنمية في مصر بين عامي 2007 و2013 تعدت 900 مليون يورو تم تخصيص 27 مليون يورو لدعم منظمات المجتمع المدني.
وفي أعقاب 30 يونيو 2013 شهد المجتمع المدني بعض الصعوبات تحت مسمى مناهضة الإرهاب والتصدي له، ويشير تقرير “استدامة المجتمع المدني لعامي 2014-2015 للشرق الأوسط وشمال أفريقيا”إلى تراجع البيئة القانونية للمجتمع المدني المصري كما شهدت هذه الفترة محاولة من الدولة فرض سيطرتها على المنظمات غير الحكومية والاتحادات والنقابات المهنية، وتقييد عملهم وتقويض استقلاليتهم. كما يشير التقرير إلى استمرار تدخل الأمن في عمل المنظمات ويشير إلى أن السلطات الأمنية قد ألغت مرتين في شهر أكتوبر 2015 اجتماع مخطط له بين المركز المصري لدراسات السياسات العامة وعدد من المرشحين البرلمانيين كان يهدف إلى مناقشة حرية تكوين الجمعيات في ضوء الدستور الجديد والمعايير الدولية في كلتا المناسبتين.
ويقدم التقرير أيضًا رصد لعدد من التجاوزات التي قامت بها الحكومة المصرية والإجراءات التي أتخذتها لمحاولة التضييق على عمل منظمات المجتمع المدني. ونذكر على سبيل المثال وليس الحصر قرار وزارة التضامن الاجتماعي والذي نشر في صحيفة الأهرام في يوليو من عام 2014تطلب فيه من كل الكيانات المدنية التي تمارس “العمل المدني”ولم تكن مسجلة بموجب قانون 84أن تقوم بالتسجيل. حدد الإشعار 45يومًا من تاريخه كآخر موعد للتسجيلات الجديدة (وتم تمديدها لاحقًا حتى 10نوفمبر، 2014) مشيرًا إلى أن الكيانات التي أخفقت في التسجيل ستتعرض للمساءلة القانونية. وفي عاميّ 2014و2015رُفض منح عدد المنظمات صفة قانونية بعد محاولة التسجيل، حيث رفضت وزارة التضامن الاجتماعي تسجيل مؤسسة ضحايا الاختطاف والاختفاء القسري، وجمعية العبور لتنمية المجتمع، وجمعية طيبة لتنمية المجتمع.
وفي حالات أخرى، أخفقت وزارة التضامن الاجتماعي في الاستجابة إلى طلبات التسجيل، كما كان الحال مع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومؤسسة الحركة المصرية للحقوق والحريات. كما قامت الحكومة بحل عدد غير مسبوق من المنظمات غير الحكومية المحلية في عاميّ 2014و2015، معظمها بدعوى اشتباه ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين. كما شهد هذان العامان مداهمات عديدة لعدد من المنظمات ومنع كثير من العاملين بها من السفر والتحفظ على أموال البعض الآخر.
على الرغم من كل هذه الممارسات إلا أن التقرير يشير إلى استمرار المنظمات العاملة في المجال التنموي والخيري في تقديم خدماتها وأنشطتها بشكل مستمر بدون التعرض لمضايقات إدارية أو تنظيمية. وهذا يشير إلى أن الدولة ليس لديها اعتراض على مفهوم المجتمع المدني بحد ذاته ولكن أوجه الاعتراض ترتبط بالموضوعات والقضايا التي تتبناها المؤسسات بشكل مختلف.
ومن الواضح أن الدولة لا تعترض على العمل في قضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بدليل أن الدولة من خلال وزارة التضامن تقوم بإسناد مشاريع وتوفير تمويل مباشر لعدد من الجمعيات الأهلية لتنفيذ برامج محددة مثل نوادي للنساء والمسنين وحضانات للأطفال وهو ما يراه الكثيرون أنها أنشطة تقليدية وخدمية ولا تواكب تطور دور المؤسسات المدنية في مصر، حيث بلغ عدد الجمعيات الأهلية مع مطلع عام 2011 (31 ألف جمعية)، ارتفع العدد أو الحجم الكلي للقطاع الأهلي- في نهاية 2014، ليصبح 46.200 جمعية أهلية. أي أن الفترة من ثورة يناير 2011 وحتى نهاية عام 2014 قد شهدت تسجيل نحو 15 ألف منظمة، وهو أعلى معدل نمو للجمعيات أو المنظمات الأهلية شهدته مصر، وإن كان قد تم حل العديد من تلك المنظمات وخصوصًا تلك التي كان لها شبهة الانتماء لجماعة "الإخوان المسلمين".
ويمكن القول إن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تمثل جوهر الهجوم الشديد الذي تشنه الدولة على منظمات المجتمع المدني بما فيهم النقابات العمالية المستقلة، ومحاولاتها المستمرة في الحول دون حصول تلك المنظمات على تمويل أجنبي:
أولا: قد أثبتت منظمات المجتمع المدني خلال العشر سنوات الماضية قدرتها على إيصال صورة صحيحة حول قضايا حقوق الإنسان والعمل من خلال المناصرة الدولية والمحلية لتسليط الضوء على ممارسات وانتهاكات تشير إلى عدم التزام مصر بالتزاماتها الدولية، وكان لابد من معاقبة منظمات المجتمع المدني على تلك التجاوزات و إعادة الدولة فرض سيطرتها على مجريات الأمور من خلال منع الحصول على تمويل لتنفيذ أنشطة. كما عكفت الدولة على القيام بحملات تشويه للنشطاء والعاملين بمؤسسات المجتمع المدني وذلك لرفع الغطاء الشعبي عن تلك المنظمات.
ثانيًا: لعبت منظمات المجتمع المدني أو بعض قادة منظمات المجتمع المدني ذات الطابع الحقوقي ومكاتب المحاماة دور كبير في الحراك المدني خلال 2011 و2013 وكان لابد من تحجيم دورهم حتى تتمكن الدولة من إعادة سيطرتها، فهناك تباين بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني حول الدور الذي يجب أن تلعبه منظمات المجتمع المدني، فمن جانبها تري الحكومة أن دور تلك المنظمات هو تنموي وخيري وليس رقابي، فحين أن منظمات المجتمع المدني وخصوصًا المنظمات الحقوقية ترى أن دورها رقابي على السلطة التنفيذية للدولة، وساعدت خلفية النشطاء والعاملين في تلك المنظمات التي تعود أغلبها إلى اليسار المصري إلى القدرة على التصدي للخطاب الرسمي فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وأسفر التداخل بين عمل المجتمع المدني ودور النشطاء إلى قيام الدولة بمواجهة تلك المنظمات التي لم تعد تراها الدولة كشريك، وفي خضم هذا اللغط في الأدوار يأتي التمويل الأجنبي كأداة للمجتمع المدني لتنفيذ أجندته في رفع وعي المواطن بحقوقه ومحاسبة الدولة (ومن ثم اتهام المجتمع المدني بمحاولة تنفيذ أجندة أجنبية والمساس بوحدة وسيادة الدولة وزعزعة السلم والأمن العام)، ولهذه الأسباب فإن الدولة من جانبها تريد تقييد حركة المجتمع المدني من خلال زيادة الإجراءات والصعوبات أمام الجمعيات في الحصول على تمويل. ولذلك تبنت الدولة خطاب وجوب تسجيل المنظمات وخضوعها لقانون 84 لسنة 2002 وتغليظ العقوبات الخاصة بالحصول على التمويل الأجنبي بدون موافقة مسبقة: أي أن الدولة أصرت على شرط "قانونية"الكيانات العاملة في مجال العمل الأهلي. أما منظمات المجتمع المدني فقد تمسكت بمفاهيم "الشرعية"من حيث حقها الذي أقرته المواثيق الدولية والدساتير المصرية المتتابعة على حرية التنظيم والانخراط في العمل العام بدون شروط تقييدية.
ثالثًا: تحايلت منظمات المجتمع المدني وخصوصًا الحقوقية ومكاتب المحاماة وآخرون بالقانون رقم 84 لسنة 2002 من خلال تأسيس الشركات المدنية غير الهادفة للربح، وقامت تلك الكيانات بتسجيل نفسها والعمل على مرأى ومسمع من الدولة المصرية منذ صدور قانون الاستثمار الذي ساعد تلك الكيانات على التواجد بشكل قانوني في مصر والعمل على قضايا حقوقية وتنموية حتي عام 2014 وصدور المهلة لتقنين الأوضاع، فالدولة قد سمحت لتلك المنظمات بالعمل في مجالات كثيرة مع الاحتفاظ بحقها في ملاحقة ومعاقبة من يتعدى الخطوط الحمراء، وغالبًا ما قامت الدولة بإعادة فتح ملفات التمويل الأجنبي كرد فعل لمحاولة الجمعيات أو الأفراد التحايل من جديد على قانون 84، فمثلًا في منتصف مارس 2016، قرر قاضي التحقيق آنذاك إجراء تحقيقات موسعة في قضية "التمويل الأجنبي غير المشروع لمنظمات المجتمع المدني"، قال إنها بناءً على ورود معلومات جديدة بشأن عدد من المنظمات الحقوقية وبعض المراكز الأهلية والإخوانية، وأشخاص متورطين في تلقي تمويل من الخارج أجنبي وعربي.
وضمت قائمة المنظمات التي اتهمها التقرير بارتكاب مخالفات، كل من “مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والمعهد المصري الديمقراطي، والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومركز هشام مبارك للقانون، وهي المنظمات التي عارضت بشدة اتفاقيات ترسيم الحدود بين مصر والسعودية والتي من شأنها تخلي مصر عن جزيرتي تيران وصنافير، ويري البعض أن الدولة كثيرًا ما تستخدم ملف التمويل الأجنبي كأداة لإسكات المعارضين أو الرد على تصريحات قد تكون ضد ما تراه مصلحة للدولة.
ويمكن القول إنه لا يوجد خلاف على أحقية الدولة المصرية في تقنين وإدارة ملف التمويل الأجنبي بشكل يحافظ على مصالح الدولة والمواطنين بما لا يتعارض مع التزامات مصر الدولية ومواد الدستور المصري لعام 2014 والتي تقضي بحرية التنظيم، لكن واقع الأمر أن القوانين القائمة يتم استخدامها فقط للسيطرة على عمل منظمات المجتمع المدني وليس من منطلق قانونية الأنشطة بل لفرض الهيمنة ومنع المعارضين. وتقوم الدولة تحت غطاء قانونية التسجيل أو قانونية الحصول على موافقات من ملاحقة المعارضين. ومن جانبهم يتمسك الحقوقيون والعاملون في قطاع المنظمات الأهلية بشرعية عملهم وتوجهاتهم، ويظل ملف التمويل الأجنبي أداة يتمسك بها الطرفان في صراع دائر حول أحقية كل منهم في إدارته بما يخدم ما يراه من الصالح العام.