د. محمد عز العرب

رئيس وحدة الدراسات العربية والإقليمية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

صدر العدد التاسع والعشرين من التقرير الاستراتيجي العربي 2016، الذي يترأسه للعام الثالث على التوالي د. عمرو هاشم ربيع، الخبير في النظم السياسية المقارنة. وقد شارك في كتابة الأجزاء المختلفة من التقرير ثمانية وثلاثين باحثا وخبيرا، منهم 17 من أعضاء الهيئة العلمية بالمركز، و21 من خارجه ينتمون لمؤسسات جامعية متنوعة ومراكز بحثية مختلفة وهيئات حكومية بارزة، ويغطون مناطق جغرافية متنوعة وتخصصات معرفية متباينة. وأسهم في تجميع بعض المواد العلمية أربعة باحثين مساعدين من الأجيال الشابة بالمركز.

ظل التقرير الاستراتيجي العربي منذ صدور عدده الأول في عام 1985 بمثابة "الإصدار الأم" لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وإطارا لتفاعل النخبة الأكاديمية والبحثية، بتنوعاتها الجيلية وأطيافها السياسية والفكرية، وباعتباره أحد المراجع الأساسية في الكتابات الأكاديمية الجماعية المنتظمة الصدور كل عام، وهو ما يعكس القدرة على الاستمرارية في الإنتاج البحثي في ظل سياق سريع التغير بصورة مذهلة سواء في العالم أو الإقليم.

ويخلق ذلك الوضع تحديا جوهريا لإصدار تقرير سنوي في عالم وإقليم يتغيرا دوريا، فيما يعرف بإشكالية التحديث المستمر للموضوعات في التقرير وخاصة تلك التي تتعرض للتغير الحاد أحيانا في السنة الواحدة، لاسيما بعد التغير الحادث في مفهوم الإقليم وهياكل الدول وطبيعة الفاعلين.

الحالات والاتجاهات

وقد ركزت السياسة التحريرية الحالية للتقرير على أهمية المزج بين معالجة الحالات Casesورصد الاتجاهات Trendsالسائدة في العالم خلال عام، وليس في مناطق أو إقاليم جغرافية (الأمة العربية أو الدائرة الخليجية أو القارة الإفريقية) بعينها، أو رصد التفاعلات داخل دولة بعينها بحيث يتم تجاوز الوقائع إلى اكتشاف الاتجاهات الرئيسية.

يقع التقرير الاستراتيجي العربي 2016 في 597 صفحة من القطع المتوسط، ومن الملاحظ استخدام المؤشرات "الإجرائية" وتوظيف الإحصاءات والرسوم البيانية والخرائط التوضيحية والصور المعبرة وأطر المعلومات المركزة، وهي كلها أمور تزيد من "صدقية التقرير" وتعزز من القيمة المضافة له. واحتوى التقرير على 32 جدولا و27 صورة توضيحية و23 شكلا بيانيا و5 أطر تعريفية و4 خرائط، وبدأ التقرير بافتتاحية كتبها رئيس تحريره بعنوان "ملفات ضاغطة: تحديات العالم والإقليم ومصر في عام مضى".

ويلي افتتاحية رئيس التحرير مقدمة تحليلية لكبير الباحثين الأستاذ السيد يسن (الذي وافته المنية قبل صدور التقرير بأسبوعين، وهو صاحب فكرة التقرير الاستراتيجي منذ صدوره في عام 1985 حينما كان مديرا للمركز، وشارك في كل أعداد التقرير التاسعة والعشرين كرئيس للتحرير ومستشار للتقرير). وقد حملت مقدمته استخلاصا رئيسيا مفاده إن التغيرات الراهنة أوصلت العالم إلى حالة من الاضطراب، الذي يعكسه الصراع الحضاري وانهيار الدول وتفكك المجتمعات، وهو ما نلمسه بوضوح في تفاعلات المنطقة العربية، داخليا وخارجيا، بعد أن ورثت الصراعات الداخلية الانتفاضات الشعبية.

أقسام التقرير

وفيما يتعلق بأجزاء التقرير، فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الأول، هو القسم الدولي الذي يضم 11 موضوعا عن التفاعلات الجارية في قمة النظام الدولي، وتهديدات الأمن الدولي، وتحولات الاقتصاد العالمي. الثاني هو القسم العربي، ويتضمن أثنين وعشرين موضوعا حول تحولات النظام العربي، وتهديدات بنية الدولة الوطنية العربية، والسياسات الخارجية لدول الإقليم، والتفاعلات داخل إسرائيل، والقضية الفلسطينية. الثالث هو القسم المصري، ويشمل 14 موضوعا، ركزت على أداء المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وحالة الاقتصاد المصري، وأداء السياسات العامة والسياسة الخارجية والأمن القومي.

وترجع غلبة الموضوعات العربية والإقليمية إلى النطاق الجغرافي المركزي الحاكم للتقرير الاستراتيجي العربي ممثلا في الدائرة العربية وما يحيط بها من تفاعلات دول الجوار الإقليمي، بل إن للمنطقة العربية تأثيرات ضاغطة على التفاعلات الدولية، على نحو ما تشير إليه ظاهرتي الإرهاب واللاجئين. فضلا عن التداعيات التي تلقي بها أوضاع دول الجوار الجغرافي على الداخل المصري لاسيما تهديدات الأطراف، من ليبيا والسودان وقطاع غزة فضلا عن بؤر الصراعات العربية الداخلية المسلحة في سوريا واليمن. 

التفاعلات الدولية

يشير القسم الدولي إلى التحولات المركزية في الدول الرئيسية بالنظام الدولي خلال العام 2016، التي تتمثل في التغير في تركيبة السلطة السياسية والتحالفات الإقليمية والعالمية، ومستقبل المنظمات الإقليمية، على نحو ما عكسته الانتخابات الأمريكية من صعود إدارة جديدة تعمل على تجاوز إرث أوباما، وتمدد دور روسيا خاصة في الشرق الأوسط، وتفاعلات بحر الصين الجنوبي، واستمرار التنافس الأمريكي الصيني في هذا البحر، وصعود الهند في الاقتصاد العالمي، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وانحسار اليسار وصعود اليمين في أمريكا الجنوبية بعد تصاعد الأزمات الاقتصادية وعدم حسم الأزمات السياسية، وتنامي استثمارات بكين في أفريقيا.

أما فيما يخص حالة الأمن الدولي، فقد أضحت أزمة اللاجئين الشرق أوسطيين واحدة من الاهتمامات الرئيسية للمجتمع الدولي خلال السنوات الماضية، لاسيما مع تعدد وتفاقم الصراعات المسلحة من جانب، وتراجع القدرات الدولية المرتبطة بحماية اللاجئين من جانب آخر، مع الأخذ في الاعتبار تمايز المواقف الخارجية في التعامل مع الأزمة. ففي حين اعتمدت بعض الدول محورية البعد الأمني، اتبعت دول أخرى نهج التدخل الوقائي في الأزمات الإنسانية والسياسية في الإقليم، ودعم الدول المصدرة للاجئين، وإعادة توزيع الأعباء بين الدول الغربية المستهدفة من اللاجئين، وإعادة الإعمار، وتدشين مشاريع تنموية واستثمارية في بؤر الصراعات.

وعلى صعيد الأمن الناعم (غير التقليدي) أشار التقرير إلى أنه لايزال تغير المناخ أحد مصادر التهديد الصاعدة  لأمن الدول النامية والمتقدمة، الأمر الذي انعكس في منتدى باريس (2015) ومراكش (2016) وضرورة تمسك دول الجنوب بالمسئولية المشتركة مع دول الشمال في اتجاه تحقيق "العدالة المناخية". وفيما يخص تطورات الاقتصاد الدولي، أوضح التقرير أنه اتسم بالتراجع، نظرا للتوترات السياسية والمواجهات المسلحة في البؤر الصراعية، والتذبذب في أسعار النفط، الأمر الذي كان له تداعياته السياسية على تباطؤ التجارة الدولية والاقتصادات الأكثر تنافسية في العالم.

التحولات الإقليمية والعربية

يشير التقرير إلى اتجاهات التفاعل بين النظامين الشرق أوسطي والعربي لصالح الأول، على نحو ما انعكس في الانقسام حول الأزمتين السورية واليمنية، وشبه الغياب عن تفاعلات الأزمة العراقية، وتجاهل الأزمة الليبية وتداعياتها، والتراجع النسبي في أولويات القضية الفلسطينية، في الوقت الذي اتسمت به جامعة الدول العربية بالضعف، نظرا لطبيعة التحديات المركبة والتهديدات المتداخلة التي باتت تواجهها الجامعة، سواء كانت تداعيات الثورات الشعبية أو متاهة المراحل الانتقالية أو حدة الصراعات الداخلية المسلحة، أو تباين مدركات النخب السياسية بشأن مصادر التهديدات الأمنية وسبل التعامل معها.

وأكد التقرير أنه لاتزال المشكلة المركزية تتمثل في ضعف مناعة الدولة الوطنية العربية خلال تفاعلات العام 2016، إذ تلاقت المعضلات السياسية والاقتصادية والأمنية لتفرض ضغوطا مجتمعية على الأنظمة السياسية في الدول المغاربية، واستمرار الصراع اليمني بين تسوية سياسية متعثرة وحسم عسكري مفقود. وكذلك الحال بالنسبة للصراع في سوريا والعراق لاسيما أن حدته ارتبطت بانفجار في القوى العنيفة سواء ميلشيات مسلحة أو تنظيمات إرهابية. فضلا عن إشكالية عدم الاستقرار داخل مملكة البحرين بفعل ممارسات القوى الشيعية الداخلية. فبقاء الدولة الوطنية صار مركزيا في اهتمامات التقرير الاستراتيجي العربي خلال السنوات السبع الماضية.

ويشير القسم العربي إلى السياسات الخارجية لدول الإقليم على نحو ما برز في عسكرة السياسة السعودية في إطار ما يطلق عليه "عسكرة الانخراط"، والتي تمثلت في مواجهة التمدد الإيراني –وليس التصدي للربيع العربي- وتزايد الاعتماد على الأداة العسكرية في الصراعات الداخلية العربية المسلحة سوريا في سوريا أو اليمن. وبرز في عام 2016 ملمح وفاقية السياسة الكويتية بين القوى المتصارعة والابتعاد عن سياسة الحياد النسبي تجاه الأزمات واستدارة سياسة تركيا الخارجية لاعتبارات تتعلق بارتدادات السياسات الإقليمية على الساحة المحلية، وكذلك بالتكلفة المرتفعة للسياسات الخارجية.

واهتم القسم العربي أيضا بالقضايا الإقليمية البارزة مثل المراجعات الفكرية للتيارات الإسلامية الجهادية، والروابط بين التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود الشرق أوسطية والجماعات الإرهابية الإفريقية وانتشار الفتاوي المسلحة في الصراعات الإقليمية والتأثيرات الضاغطة لأزمة اللاجئين السوريين على دول الجوار لاسيما فيما يخص التحولات الديموغرافية، وإثارة الهوية الثقافية، والتهديدات الأمنية. كما ركز التقرير على التفاعلات الداخلية الإسرائيلية، سواء الائتلافات الحكومية أو العلاقات الدينية العسكرية أو مواجهة التهديدات الأمنية والعسكرية، فضلا عن الصراعات الداخلية على الساحة الفلسطينية وتنافس الأدوار الإقليمية في قطاع غزة.

التطورات المصرية

أما القسم المصري فقد أشار التقرير إلى أن عام 2016 شهد تفعيلا لدور مؤسسات الدولة، وإنهاء تداعيات المرحلة الاستثنائية التي شهدتها البلاد منذ ثورة يناير 2011، وإن كان أداء مؤسسة الرئاسة يفوق أداء الحكومة، على نحو أدى إلى تزايد الطلب على دور المؤسسة العسكرية في التعامل مع المشكلات الداخلية التنموية، بخلاف دورها في صد التهديدات الأمنية سواء في الداخل أو الخارج. ولم يكن أداء السلطة التشريعية أفضل حالا من السلطة التنفيذية، وهو ما يرجع إلى حداثة خبرة النواب الجدد في التعامل مع الأداتين التشريعية والرقابية. كما استطاعت السلطة القضائية أن تحدث توازنا في أحكامها بشأن القضايا المسيسة أو المثيرة للجدل.

كما تطرق التقرير إلى تفاعلات المؤسسات غير الرسمية بعد عودة الحراك السياسي والاجتماعي، والذي تمثل في حراك نقابتي الأطباء والصحفيين، واعتراض قطاعات من الرأي العام والنخبة على قرار نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير لمصلحة السعودية، وصعود حركات التضامن مع المعتقلين السياسيين وخاصة معتقلي "جمعة الأرض". وقد أسهم نجاح هذا الحراك في تحقيق بعض النتائج الإيجابية في توفير سياقات ضاغطة على العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في مصر. وكان إصدار قانون الجمعيات الأهلية، في أواخر نوفمبر 2016، دليلا على عمق التأزم بين المجتمع المدني والنظام السياسي المصري.

وفيما يخص حال الاقتصاد المصري أوضح التقرير أن الحكومة طرحت عددا من الحلول لمعالجة التشوهات الواسعة التي عانى منها الاقتصاد عبر تبني نظام صرف مرن، وضبط المالية العامة، عبر إصلاح منظومة الدعم والسلع والخدمات العامة، وتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية، وتحسين مناخ الاستثمار، مع الأخذ في الاعتبار المخاطر الناجمة عن برنامج الإصلاح الاقتصادي، وأهمها التكلفة الاجتماعية المرتفعه لتطبيقه، لاسيما مع تراجع مستوى تقديم الخدمات المرتبطة بالتعليم والصحة.

أما فيما يتعلق بتفاعلات السياسة الخارجية، فقد أشار التقرير إلى أنها اتجهت إلى تنويع علاقات الشراكة مع القوى الدولية والإقليمية، والحفاظ على هياكل الدول الوطنية، في ظل اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية في إقليم الشرق الأوسط، وخاصة مواجهة الإرهاب العابر للحدود، والهجرة غير الشرعية، الأمر الذي استلزم زيادة القوة العسكرية للدولة، والعمل على ترجيح خيار التسوية السياسية السلمية للصراعات الداخلية العربية المسلحة، وتحقيق الاستقرار في الدول التي تعاني الفوضى، لاسيما في ضوء التحولات الجارية لجغرافيا وفواعل العنف العابر للحدود، سواء الميلشيات المسلحة أو التنظيمات المسلحة أو "الجيوش الموازية".