أثناء حملته الانتخابية وعد دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وهو القرار الذي اتخذه الكونجرس عام ١٩٩٥، وظل الرؤساء الأمريكيين منذ بيل كلينتون وحتى أوباما يؤجلون تنفيذه خشية تأثيره على المصالح الأمريكية في العالمين العربي والإسلامي، رغم أن القرار تم اتخاذه عقب توقيع اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية بنحو عامين. لكن كان من شأن تطبيق ذلك القرار أن يقوض جهود التسوية النهائية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي والتي كانت تبدو مبشرة في ذلك الوقت.
ويبدو السؤال الأكثر إلحاحا الآن هل سينفذ ترامب وعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس؟ خاصة أنه شرع في إصدار قرارات تنفيذية executive orders للوفاء بوعود أخرى كان قد قطعها علي نفسه أثناء حملته الانتخابية، مثل منع رعايا دول عربية وإسلامية من دخول الولايات المتحدة، وأيضا الشروع في بناء جدار عازل على الحدود الأمريكية مع المكسيك!!!
واقع الأمر إن مد الخطوط على استقامتها في هذا الجانب قد يقود لتنبؤات غير دقيقة، فوعد ترامب الخاص بنقل السفارة يختلف في تكلفته السياسية والأمنية عن الوعود الأخرى التي شرع في تنفيذها عقب دخوله البيت الأبيض. ومن ثم يبدو أن تصريح ترامب في ٢٦ يناير الماضي بأنه من السابق لأوانه مناقشة كيفية تنفيذ قرار نقل السفارة يعني بوضوح أنه وإن كان قد بدأ في إدراك الصعوبات التي تكتنف تنفيذ القرار، إلا أنه لم يغلق الملف تماما، وبالتالي يصبح من الضروري البحث في ماهية هذه الصعوبات للحكم علي مدى قدرة ترامب وإدارته على التغلب عليها في المدى المنظور، وكيف يمكن للفلسطينيين، بدعم عربي وإسلامي، وربما حتي دولي، الإبقاء على القرار في حالة تأجيل مستمر كما كان عليه الأمر منذ صدور قرار الكونجرس بهذا الشأن قبل أكثر من عشرين عاما.
١- التكلفة الأمنية لتنفيذ القرار
إذا كان بوسع ترامب أن يتجاهل العواقب السياسية في حالة تنفيذه قرار نقل السفارة، والمتمثلة بالأساس في إمكانية توتر العلاقات الأمريكية مع أغلب الدول العربية والإسلامية التي ستتعرض بدورها لضغوطات هائلة من شعوبها للرد بقوة على هذه الخطوة الأمريكية المفترضة في حالة تحققها، فلن يكون قادرا على تجاهل التداعيات الأمنية للقرار، إذ سيتطلب ذلك وضع إجراءات مشددة لحماية البعثات الدبلوماسية الأمريكية ليس في العالمين العربي والإسلامي وحدهما، بل في العالم بأكمله. وينطبق الأمر ذاته على التكلفة المنتظرة لحماية الرعايا الأمريكيين سواء كانوا سائحين أو عاملين في الشركات الأمريكية خارج الحدود.
إن بذل الجهود الدبلوماسية من جانب الدول العربية والإسلامية لتبصير أصحاب الاستثمارات الأمريكية بعواقب القرار وخطورته على مصالحهم يمكن أن تكون أداة استباقية لمنع إدارة ترامب من التفكير في اتخاذ القرار في المدى المنظور، وربما حتى نهاية ولايته بعد أربعة سنوات.
على الجانب الآخر، من المتوقع أن تحاول أجهزة الأمن الأمريكية إقناع الرئيس ترامب بعدم وضع القضية على الطاولة من الأصل، خاصة بعد أن اتخذ ترامب قراره بمنع رعايا سبعة دول عربية من دخول الأراضي الأمريكية، وهو القرار الذي أثار ردود فعلية سلبية واسعة النطاق في العالم العربي. ويخشى المراقبون من أن يحفز هذا القرار بعض الإسلاميين المتشددين داخل الولايات المتحدة للتخطيط لعمليات إرهابية انتقامية، فما بالنا إذا أتبع ترامب ذلك بقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس؟! والذي يمكن أن يضاعف من حوافز وفرص المتشددين لتوجيه ضربات انتقامية داخل الولايات المتحدة وضد مصالحها في العالم على نطاق واسع.
إن استغلال الدول العربية والإسلامية لمخاوف الأجهزة الأمنية الأمريكية من حدوث مثل هذا السيناريو يمكن أن يساعد في كبح إدارة ترامب ودفعها للتريث في تنفيذ عملية نقل سفارتها إلى القدس، حتى لو كانت تنوي الشروع فيه خلافا لما أعلنه ترامب مؤخرا من أنه من السابق لأوانه الحديث في هذا الأمر كما أشرنا سابقا.
٢- الاعتراض الأوروبي على القرار
في الخامس عشر من يناير الماضي وأثناء انعقاد مؤتمر السلام الذي دعت إليه فرنسا لمناقشة سبل استئناف عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، حذر وزير الخارجية الفرنسي، جون مارك أيرولت، من أن قرار الإدارة الأمريكية الجديدة نقل سفارتها إلى القدس ستكون له عواقب خطيرة جدا، وأنها تأمل أن يصل الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى قناعة بأن "قرار كهذا مستحيل تطبيقه على أرض الواقع". وفي اليوم التالي مباشرة لصدور التصريح الفرنسي حذرت الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فيديريكا موجريني، من إقدام واشنطن على هذه الخطوة قائلة: "من المهم بالنسبة لنا جميعا أن نمتنع عن اتخاذ إجراءات أحادية الجانب قد يكون لها عواقب وخيمة".
وهكذا، يمكن القول هنا أيضا إن استغلال المخاوف الأوروبية من تنفيذ القرار الأمريكي يمكن أن يشكل بدوره أداة مهمة في يد الفلسطينيين والدول العربية لمنع ترامب من تنفيذ وعده السابق، حيث يشكل القرار خطرا أكبر على الأمن الأوروبي نظرا لقربها الجغرافي من المنطقة العربية، وأيضا لوجود جالية ذات أصول عربية وإسلامية كبيرة في أوروبا مما يفاقم من مخاطر تمكن الجماعات الإرهابية من تجنيد العديد من أبناء هذه الجاليات لتوجيه ضربات انتقامية داخل أوروبا تحت ذريعة أن الأوروبيين لم يبذلوا جهدا كافيا لمنع إدارة ترامب من تنفيذ قرارها. بل يمكن أن تقنع هذه الجماعات أنصارها بأن القرار الأمريكي قد تم بموافقة ضمنية من الأوروبيين أو بتوافق معهم، بما يعطي مشروعية "أخلاقية" و"أيدولوجية"- وفقا لحسابات هذه الجماعات- لتنفيذ عمليات انتقامية داخل أوروبا أو ضد المصالح والمنشآت الأوروبية خارج القارة الأوروبية، خاصة إذا ما تعذر تنفيذه هذه العمليات داخل الأراضي الأمريكية أو ضد المصالح الأمريكية.
٣- الأمل الأمريكي في إحياء عملية السلام
علي الرغم من أن ترامب لم يظهر اهتماما واضحا بمسألة إحياء عملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، إلا أن رسالته التي وجهها إلى "الكونجرس اليهودي العالمي" (تجمع لممثلي الطوائف اليهودية في العالم) في شهر ديسمبر ٢٠١٦ أفصح فيها عن أمله أن تلعب إدارته دورا تاريخيا في تسوية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وبطبيعة الحال ربما تأخذ إدارة ترامب في حساباتها أن تحقيق هذا الأمل يتعارض مع خطوة مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، خاصة أن رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن، كان قد صرح في منتصف يناير الماضي بأن السلطة ستسحب اعترافها بإسرائيل حال تنفيذ واشنطن قرار نقل السفارة.
إن تنفيذ الفلسطينيين لهذا التهديد (سحب الاعتراف بإسرائيل) سيكون نهاية مؤكدة لجهود التسوية التي بذلت منذ توقيع اتفاق أوسلو، وربما يقود إلى تدهور أمني شديد داخل الأراضي الفلسطينية سيكون له تداعياته الخطيرة على إسرائيل وعلى العديد من الدول العربية، خاصة مصر والأردن، وبالتالي من الضروري أن تزيد مصر والأردن من اتصالاتهما مع الولايات المتحدة وإسرائيل لإقناعهما بخطورة مثل هذا السيناريو.
بشكل مختصر، يمكن القول إن تقلبات ترامب يمكن أن تقود إلى اتخاذ قرارات غير محسوبة ومنها اتخاذ قرار بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، غير أن استغلال وتوظيف الضوابط الثلاثة السابق ذكرها يمكن أن يدفع بإدارة الرئيس ترامب للتريث في اتخاذ أي خطوات مفاجئة في هذا الاتجاه. وبالتالي فإن الجهود المصرية والعربية يجب أن تتوحد في هذه المرحلة، وأن يكون لديها أجندة واضحة تعمل وفقها وتكون بمثابة إجراءات استباقية لمنع تحول وعد ترامب الانتخابي لإسرائيل إلى سياسة فعلية تقضي على أي أمل في تسوية القضية الفلسطينية بشكل سلمي، فضلا عن خطورتها على الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط بأكمله.